10 سنوات على رحيل محمد سعيدي

استحضار مسيرة المناضل الثقافيّ ورجل الدولة

استحضار مسيرة المناضل الثقافيّ ورجل الدولة
  • القراءات: 513
لطيفة داريب لطيفة داريب

دعا المشاركون في الندوة التي نظّمتها الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، أوّل أمس، بالمركز الثقافي "العربي بن مهيدي" بالجزائر الوسطى، تحت عنوان "محمد سعيدي المناضل الثقافي ورجل الدولة" ، إلى رد الاعتبار لمثقفينا ومفكرينا وفنانينا الذين رحلوا عنا، وتعريف الشباب بهم، والاستفادة من إنتاجهم الذي خلّفوه في حياتهم.

بالمناسبة، قال رئيس الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية الدكتور عمر بوساحة، إنّ الجزائري، في العادة، ينسى رموزه خاصة الثقافية منها، ليتساءل: "إلى متى هذا التجاهل بمثقفينا؟! " وقال: " على الدولة والمجتمع الجزائريين الاهتمام بهذه الفئة من المجتمع، والتعريف بفكرهم، والاستفادة منهم "، لينتقل في حديثه إلى المثقف والمناضل السياسي والدبلوماسي محمد سعيدي، الذي قال إنه شغل عدة مناصب؛ مثل محافظ حزب جبهة التحرير الوطني، وسفير، وكان يمارس مهامه حسب اعتقاداته، كما كان مشبَّعا بالأفكار الحديثة.

 مناصر للحرية والعقل

من جهته، تطرق الكاتب محمد بوعزارة في ورقة عنونها "حوار البحر ومنظور الرجل للحريات"، للجحود والنكران الذي يطبع حياتنا الثقافية والفكرية تجاه رجال ونساء غادروا عالمنا، مشيرا إلى الخجل الذي يشعر به حينما يسافر إلى بلد ما ويُسأل عن مصير تركة مثقف جزائري راحل، فيتهرّب من الردّ، ليدعو إلى تنظيم العديد من الندوات حول الأسماء الفكرية والثقافية البارزة.

بالمقابل، قال بوعزارة إنّ القدر جمعه بسعيدي حينما كانا يقطنان بمنطقة موريتي (العاصمة) في منتصف تسعينات القرن الماضي، وكانا يسبحان في البحر، ويتحدّثان عن وضع البلاد غير المستقر آنذاك، وهذا بعد توقيف المسار الانتخابي، مضيفا أنّ سعيدي كان يعتقد أن غياب الحوار أدى إلى هذا الوضع الأليم، وكان يُسقط ما حدث في الجزائر بأحداث وقعت في تاريخنا الإسلامي؛ مثل الاغتيالات التي طالت العديد من الشخصيات. وتابع: " سعيدي، رغم قتامة الواقع في تلك الفترة، كان مؤمنا بمستقبل زاهر للجزائر؛ من خلال إيجاد نخبة وطنية تُخرج البلد من الأزمة ". كما كان مناصرا كبيرا للحرية؛ فقد كان مؤمنا بأنّ الحرية هي أساس الوجود، وأنه بواسطتها ينتظم المجتمع، ويبدع أيضا. وقال: "استقللنا، لكننا لم ننعم بعد بالحرية" رغم أنه في نفس الوقت، كان يعتقد، فعلا، أن نور الثورة التحريرية لن يخمد أبدا.

أوّل من ربط الجزائر والأدب الروسي

من جهته، أكّد الدكتور أمين الزاوي ضرورة الاهتمام بالأسماء التي لم تكن سياسية وإدارية فقط، بل كانت مشبَّعة ثقافيا؛ مثل محمد الميلي، ومحمد سعيدي، ممن يملكون انتماء ثقافيا وفكريا أكثر منه سياسيا وإيديولوجيا.

أما عن أوّل لقاء به فكان عام 1978، حينما كان الزاوي طالبا في الجامعة وكان أيضا ضمن طاقم مجلة "أمل" . أما سعيدي فكان مدير "ثقافة" بوزارة الثقافة. وكانا يتحدثان في أمور عديدة، يأتي في مقدّمتها الأدب الروسي الذي تخصّص فيه سعيدي، حينما كان طالبا بالجامعة في الاتحاد السوفياتي سابقا.

ويرى الزاوي أنّ سعيدي هو أوّل من ربط الجزائر بالأدب الروسي. كما كان جميلا، وأنيقا، ومريحا للروح، مشيرا إلى توطّد علاقته بسعيدي حينما ترأّس الزاوي المكتبة الوطنية؛ حيث كان يتردد عليها كثيرا، وكان مفعما بالحيوية، ويتحدث بحرارة، ويملك روحا وطنية.

وتحدّث الزاوي عن نشر المكتبة كتاب سعيدي بعنوان "من الاستقلال إلى الحرية" ، الذي ضمّ أفكارا جريئة جدا عن واقع وتاريخ الجزائر. 

كما تطرّق المتحدّث لولع سعيدي باللغات الأجنبية؛ فقد تعلّم اللغة الفرنسية لوحده. وتعلّم الروسية في وقت وجيز. وكان يرى أنّ هذه اللغات تفتح لنا أبواب العالم، وكان، أيضا، مؤمنا بارتباط تقدّم الجزائر بوضعية المرأة فيها.

وتابع زاوي مجدّدا أن محمد سعيدي كان منشغلا بالعقل الذي كان يراه بوصلة حقيقية للتطوّر. وكان معجبا جدّا بالمعري، ويراه أفضل من ابن رشد، وكان في أيامه الأخيرة متحمّسا للحياة التي عاشها بامتلاء.

كان منسجما مع أفكاره

وعرفت الندوة أيضا مشاركة الشاعرة والمترجمة لميس سعيدي نجلة المحتفى به، التي قالت إنّ الحديث عن والدها مربك؛ لأنّه حاضر دائما معها رغم وفاته منذ عشر سنوات، إلاّ أن استحضار ذكراه مع الآخرين ُعدّ مصدر بهجة بالنسبة لها.

وأشارت لميس إلى أن والدها كان يحمل شخصية إيجابية منسجمة مع أفكارها ومواقفها. ويضع كل شيء في ميزان العقل. وكان انقطع عن الدراسة التنظيمية في جامعة الزيتونة مضطرا لمدة عام كامل، فقرّر تخصيص كل وقته للمطالعة في المكتبة الوطنية العطارين بتونس. وهناك استلهم من كتب العديد من الكُتاب والمفكرين، خاصة الحداثيين منهم، على رأسهم العقاد.

وكشفت المتدخلة عن تغيير مسار والدها الجامعي؛ حيث أُرسل من طرف الحكومة المؤقتة ليدرس تخصّصا تقنيا بالاتحاد السوفياتي سابقا، إلا أنّ شغفه بالأدب جعله يتخصّص فيه. 

وفي روسيا اكتشف أيضا، أنّ العقاد كتب في تخصّص لا يتقنه وهو "اللسانيات" ، ليشعر بصدمة، ولكنه سرعان ما تجاوزها؛ لأنّه ضدّ تقديس الأشخاص.

وأكّدت لميس امتلاك والدها رؤية وطنية. كما كان يعتقد أنّ الثورة الجزائرية لم تنته بتحقيق الاستقلال، بل ماتزال مستمرة. وكان يرفض إعادة إنتاج الماضي حتى ولو كان إيجابيا. ورغم رغبته في التدريس بالجامعة بعد عودته إلى الجزائر، إلاّ أنّه اشتغل مراسلا لمجلة "المجاهد" لمدة عام. وقد سعد كثيرا بهذه المهمة، التي جعلته يكتشف ولايات وطنه، ليعيَّن بعدها مديرا ليومية "الشعب" . وتتوالى، بعدها، المناصب المختلفة في السياسة، والدبلوماسية، ومع ذلك فهو لم يطلّق أبدا الأدب.