كريم عبد السلام في ديوانه "أكتب فلسطين"

حين يتحول الشعر إلى فعل مقاومة

حين يتحول الشعر إلى فعل مقاومة
  • القراءات: 376
م. ص م. ص

يحتضن الشاعر المصري كريم عبد السلام، فلسطين في ديوانه الذي وسمه باسمها "أكتب فلسطين - متجاهلاً ما بعد الحداثة" . ويكشف أقنعة المواقف والسياسات المتخاذلة من حرب الإبادة التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني على مدار عام مضى، ولاتزال مستمرة على يد المحتل الإسرائيلي، محوّلاً الشعر إلى فعل مقاومة، يعرّي هذه المأساة، وحبال التواطؤ التي تساهم في صنعها واستمراريتها، ضارباً عرض الحائط كلّ القيم، والقوانين، والأعراف الدولية والإنسانية.

مثلما تتعدّد صور هذه المأساة الوحشية تتعدّد صور فعل المقاومة في الديوان الصادر حديثاً عن دار "يسطرون" للنشر بالقاهرة، مرتكزاً على السخرية سلاحاً للهدم والبناء، وهتك المسكوت عنه، والمهمّش فيما وراء الأشياء، وفي طوايا الواقع المرير.
وعبر 114 صفحة يتحوّل الديوان إلى مسرح لتراجيديا مفتوحة على البدايات والنهايات، تختلط فيها الملهاة بالمأساة. ويراوح الإيقاع فنياً بين اللهاث للقبض على الحدث في فورانه الماثل للعيان. وتأمّل ما نجم عنه من خراب، ودمار، وقتل، وتجويع، وتشريد، واغتيال لكلّ ما هو حيّ جراء هذا العدوان المتوحش، الذي لم تعرف البشرية نظيراً له فيما مرت به من حروب ونكبات. وأصبح يثير قلق الوحوش ملوك الغابات والبحار، معبرة عن قلقها البالغ والشديد على الاحتمال، أو قدرة الأرض على تحمّل دماء وعظام الأبرياء المقتولين غدراً.

حقيقة غير قابلة للمحو أو النسيان

فهكذا؛ من شعرية التقرير بنسقها السردي الصادم المباغت وشعرية الدراما التي يتنازع فيها الصراع على التشبث بإرادة الحياة والحلم بغد أكثر عدلاً وأماناً، إلى شعرية التهكّم والسخرية حتى من الموت نفسه؛ باعتباره تناسلاً جديداً للحياة في حيوات أجساد أخرى.
ويوثق الشاعر لكل هذه المرايا المهشَّمة بمجموعة من الصور الملتقطة من رحم المأساة في غزة. كما يستدعي صوراً أخرى لأبطال ومناضلين قاوموا المستعمر المحتل؛ دفاعاً عن الحق والكرامة الإنسانية؛ مثل جيفارا.
ويستحضر الصورة التراثية الأيقونة الشائعة لصلب المسيح، يكرّرها في لقطات متتالية تشبه البانوراما التشكيلية؛ حيث يتناثر عليها الضوء والعتمة من زوايا ومساقط مختلفة، ساتراً عورته بالكوفية الفلسطينية الشهيرة؛ في رمزية حية تمزج الدال بالمدلول، تشي بأنّ المسيح يُصلب من جديد هنا، وأنّ كل دعاوى الخلاص التي يطلقها المحتل، هي محض افتراءات وأكاذيب مضلّلة.

وفي صور أخرى يبدو القمر بكامل استدارته محلقاً بمفتاح القدس في السماء، وتزيّنه هذه الكوفية أيضاً؛ محتفظة بنصاعتها رغم القذائف التي تصوَّب إليها من كلّ الجهات.
كما يستند التوثيق على حقائق دامغة، تتمثل في نصّ القرارات الدولية التي صدرت عن منظمة الأمم المتحدة منذ عام 1947. وتؤكد حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة فوق أرضهم المغتصبة.
لكل هذا يكتب الشاعر فلسطين؛ يمدُّ ألف "أكتب" في الغلاف. ويأخذ حرف الطاء شكل خريطة فلسطين، كأنه يثبتها في جدار التاريخ؛ كحقيقة غير قابلة للمحو أو النسيان.

ضفيرة شعرية يتواشج فيها الحدث الدامي

يضم الديوان ثلاث قصائد تشكّل الكتلة الأساسية؛ هي "ناقد في شرفة الطابق العاشر"، و "جوليات وداوود قبل المونتاج"، إلهي إلهي..لماذا تركتني؟ "، تعقبها قصيدة طويلة في نحو 50 صفحة، تشكّل محور الإيقاع لهذه الكتلة، يفكّك فيها الشاعر اسم فلسطين، ويحوّل حروفه إلى أوتار رنانة، "فاء... فلسطين، لام... لأنّ المسافة صفر، سين... السفاح المسكين، طاء... طبعاً مع الوحوش أفضل جداً، ياء... يا ليل القمر فلسطيني، نون... نحيا سيرة مقاوم" ، بينما تبدو الذات الشعرية كأنها طفل يقف وسط الخراب على عتبة اللغة والكلام يعيد تهجئة الاسم؛ كأنّ الاسم نفسه بمثابة مفتاح للولوج إلى العالم المحيط، ومعرفة خباياه وأسراره.

ويتم ذلك في وحدات شعرية تلعب على جدل الاتصال/ الانفصال، لتشكل من خلاله ضفيرة شعرية، يتواشج فيها الحدث الدامي المتناثر على الأرض، وما يتركه على عين النص والقارئ من ذبذبة بصرية نازفة أيضاً.
ويقول الشاعر في النص الأوّل: "ناقد في شرفة الطابق العاشر"، مستدعياً الآخر الضدّ في حوار ضمني أحادي، تعلو فيه نبرة الاستعلاء وادّعاء الحكمة. كما يسخر من فكر ما بعد الحداثة؛ باعتباره أسلوباً ينطوي على التشكيك في التصوّرات والرؤى والأفكار الراسخة؛ فلا ثقة في العقل والحقيقة والهوية والموضوعية كقيم محفّزة على التقدّم وبناء المستقبل، في مقابل الترسيخ لفكرة "التشيؤ" معياراً لعالم جديد مصطنع، ينهض على منطق السطوة، والقوة، والنفوذ، وهو المنطق نفسه الذي يحكم عقلية العدو الغاصب في هذه الحرب.

محاكمة هزلية على لسان المجرم

من ثم تبرز فكرة المحاكمة في الديوان، وتتخذ منحى هزلياً على لسان هذا المجرم، في نص "سين... السفاح المسكين" الذي يلعب على حرف السين من أبجدية اسم فلسطين؛ فلا هو يستطيع أن يتخلّص من القتل الذي تحوّل إلى فعل إدمان. كما تبدو محاولات التطهير أشبه بمتاهة وحلقة مفرغة، تتّسع كلّ يوم، وتتحول في مواجهة فعل المقاومة الباسلة إلى هاوية، يخشى السفاح أن تبتلعه، لكنه يظل مؤرقاً، يجأر بالشكوى أمام قاضٍ متوهم، صنعه من هلاوس هذا الأرق الممض على مدار سبعة أيام؛ في دلالة موحية على انطلاقة "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023.

وفي السياق نفسه، يوسّع الديوان درامياً، من فضاء هذا المشهد، عبر مسرحية هزلية من فصل واحد بعنوان "الزعماء يصنعون السلام" (Handmade)، أبطالها خمسة شخوص يمثلون القوة العظمى التي تتحكم بمصير العالم؛ في إشارة إلى الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن، التي تملك حق النقض (الفيتو). ويجلسون على قطع من الحجارة بين أنقاض مبنى متهدم، تفوح منه رائحة الدماء وأشلاء القتلى، يحوّلهم النص إلى هياكل بشرية، يتبادلون الحوار حول السلام، والموت، والأرض، وغواية الغزل والحب.

وفي آخر تصويت عن مدى استعداد الأرض للسلام " ترتفع أصوات انفجارات، وطلقات رصاص، وقصف بالطائرات. ويشتعل المسرح، ليتفرق الزعماء هاربين؛ بحثاً عن مخبأ ".
وفي ختام هذه الإطلالة على المغامرة الشعرية الشيقة والمتميزة، يترك الشاعر كريم عبد السلام النهاية مفتوحة على كل الاحتمالات، بينما تطل من قاموس "لسان العرب" كلمة حياة بكل مرادفاتها واشتقاقاتها؛ كأنها تصارع الموت بكل مرادفاته، تاركاً "لسان الغرب" تعبّر عنه الصور الدموية للمأساة. وفي "لسان الحال" يعيد نشر الوثائق الدولية، التي تنصّ على حق الفلسطينيين في الحياة.