آثارها امتدت إلى ما بعد الاستقلال.. باحثون:
فرنسا الاستعمارية حوّلت الجزائر إلى "مملكة للبؤس"
- 172
حطّمت فرنسا الاستعمارية منذ وطئت أقدامها أرض الجزائر، الاقتصاد المحلي التقليدي البسيط؛ من خلال استهداف المصدر الأول لقوت الجزائريين، وهو الأرض؛ الأمر الذي فضح سياستها الاستعمارية، التي حاولت من خلال احتلالها الجزائرَ، جعل الأراضي الجزائرية وما تنتجه من خيرات، موجهة لدعم السوق الفرنسية، وهو ما كشفت عنه زراعة الكروم لصنع النبيذ، الذي يُعد واحدا من المقومات التي بُني عليها الاقتصاد الفرنسي؛ ما جعل الاقتصاد الجزائري حينها، موجها لخدمة احتياجات الاقتصاد الفرنسي، وبعمالة جزائرية. وحول السياسة الاستعمارية الاقتصادية المنتهجة في الجزائر إبان الثورة وتداعياتها بعد الاستقلال، تحدثت "المساء" إلى أساتذة في التاريخ على هامش مشاركتهم في فعاليات ملتقى دولي، تزامنا والاحتفال بسبعينية ثورة نوفمبر المجيدة.
قال صادق دعاش، مدير مخبر البحوث التاريخية والحضرية، في تصريحه لـ"المساء" ، بأن فرنسا كانت لديها سياسة اقتصادية واضحة في الجزائر، غير أن هذه السياسة وُجهت لخدمة الاقتصاد والفرد الفرنسي أكثر من الاقتصاد والفرد الجزائري، وهو ما عكسته مظاهر الفقر والمجاعة بعد انتزاع المستعمر الفرنسي مصدر القوة الأساس للجزائري، وهو الأرض؛ تفعيلا لسياسة التفقير والتجويع، مشيرا إلى أن المستوطن الفرنسي حوَّل الأراضي إلى منتجات لا تلبي احتياجات المجتمع الجزائري، وإنما تم توجيهها لتلبية احتياجات السوق الفرنسية؛ من زراعة الكروم والتبغ وغيرهما من المنتجات ذات الطابع التجاري، في الوقت الذي كان المجتمع الجزائري بحاجة إلى ما تنتجه الأرض من خيرات متنوعة ليؤمّن الاكتفاء الذاتي.
وحسب المختص في التاريخ، فإن السياسة الاستعمارية ومن خلال استهدافها الأراضيَ، لم تقتصر على استغلال الأرض فقط، وإنما امتد ذلك إلى السيطرة على الأراضي الخصبة مثل سهول متيجة، وطرد الجزائريين إلى الأراضي الجبلية غير المنتجة. وأشار إلى أن أهم التداعيات التي ترتبت عن سيطرة الفرنسيين على الاقتصاد الجزائري، خلق نوع من الازدواجية في الاقتصاد، والتي استمرت آثارها حتى بعد الاستقلال، فأصبح لدينا اقتصاد محلي خاضع للاقتصاد الفرنسي، إلى جانب النزوح الريفي نحو الشمال؛ بحثا عن العمل، وكذا اعتماد الاقتصاد الجزائري بعد الاستقلال، على الريع النفطي فقط، وهو ما جعل الدولة عقب الاستقلال، تسارع إلى البحث عن سبل من أجل تنويع اقتصادها من خلال المنتجات الزراعية بدل المحروقات.
ومن جهته، أكد الأستاذ في التاريخ رمضان بورغدة، أن المعلوم والشائع عند الباحثين عند الحديث عن الحقبة الاستعمارية، هو القمع العسكري، ولكن الفرنسيين أنفسهم تحدثوا عن الحرب الاقتصادية التي قامت على ركيزتين أساسيتين، هما الضريبة التي كانت مزدوجة بين السيطرة على الزكاة والعشور والضرائب الخاصة بالجزائريين خلال الفترة الأولى للاستعمار؛ حيث ارتفع مستوى الضريبة بـ1548 ٪ مقارنة بالفترة العثمانية، وهو ما جعل الجزائري بعد الاستقلال يقع في خلط حول مفهوم الضريبة؛ هل ينظر إليها على أنها التزام مواطنة أم أنها عقوبة؟ ولأنه يراها غرامة تعزز لديه التهرب الضريبي، وهو واحد من مخلفات الحرب الاقتصادية، التي لاتزال آثارها واضحة في ذهنية الجزائري.
وأردف المتحدث قائلا: "أما الجانب الآخر والذي يُعد من أبشع الحروب الاقتصادية المبنية على الإخضاع، وهو مصادرة الأراضي الجماعية والفردية بعدما أدرك المستعمر الفرنسي أن نظام الإبادة والقتل لا يكفي لبسط سيطرته، فذهب إلى تبنّي سياسة إفقار الشعب؛ من خلال نزع ملكية الأراضي لقمع الجزائريين، والتي كان يتم الاعتماد عليها سواء في الرعي أو الزراعة منذ بداية الاحتلال الفرنسي، والتي نتج عنها تجويع وتحويل الجزائر إلى مملكة للبؤس، وهو ما تعكسه المجاعة التي أصابت الجزائر، والتي أدت إلى وفاة عدد كبير من السكان، وخاصة في مدينة قسنطينة، فنتج عن سياسة التجويع وانتزاع الأراضي وفاة 500 ألف نسمة"، مشيرا إلى أن من بين الآثار السلبية أيضا، "الهجرة نحو المناطق الجبلية". كما لفت إلى أن البؤس الاقتصادي جعل الجزائريين الذين حُرموا من التعليم، يؤرخون للأحداث الكبرى بعبارة تعكس ألم ووجع السكان خلال الحقبة الاستعمارية بعبارات مختلفة، منها "عام الجوع"، و"عام العراء" ، و"عام التيفيس"، و"عام القمل" وغيرها من العبارات التي تعكس الظاهرة الاستعمارية، مؤكدا أن هذه الظاهرة امتدت من 1830 إلى غاية 1962.
ومن الآثار الاستعمارية للحرب الاقتصادية خلال الحقبة الاستعمارية والتي لاتزال مستمرة إلى غاية اليوم، حسب الأستاذ بورغدة، النزاعات بالمحاكم حول الأراضي، والتي بلغت حد ارتكاب الجرائم في العائلة الواحدة. وكان السبب فيها القانون الفرنسي، الذي عزّز الملكية الفردية، لافتا إلى أن الآثار السلبية لاتزال تلاحق الجزائري؛ من خلال سلوكه السلبي الذي ينظر من خلاله دائما، إلى الدولة على أنها خصم. ولعل أبسط مثال التهرب الضريبي، الذي تُعد فيه الجزائر أضعف بلد من حيث التحصيل الضريبي، وكلها من إرث الاستعمار الغاشم.