السهرة الثالثة من مهرجان المالوف الدولي
لقاء السنطور الفارسي بالكمان القسنطيني.. سحر الموسيقى يجمع الثقافات
- 102
شهدت الليلة الثالثة من فعاليات المهرجان الدولي للمالوف الثانية عشرة، التي احتضنتها قاعة العروض الكبرى "أحمد باي" بقسنطينة، سهرة عنوانها "يسعد مساكم"، قادها سمير بوكريديرة؛ حيث استمتع الجمهور ببرنامج موسيقي ثريّ، جمع بين الطرب الأندلسي، والمالوف القسنطيني؛ في تناغم ساحر، فضلا عن حضور لافت للأخوين يحي زاده من إيران.
افتتح الأخوان الإيرانيان جاويد وأحمد يحيى زاده السهرة الثالثة في عرض مميّز وطابع فريد، جمع بين التراث الموسيقي الفارسي والموسيقى القسنطينية، ليقدّما للجمهور تجربة فنية لا تُنسى؛ إذ أدهش الأخوان الجمهور القسنطيني بعزفهما على آلة السنطور العريقة، التي يُقدّر عمرها بأكثر من 2500 عام قبل الميلاد. وقد عُرفت هذه الآلة في الحضارات القديمة مثل المصريين والإغريق. وتُعد من أبرز أدوات الموسيقى الفارسية الكلاسيكية. ومن خلال أدائهما اكتشف الجمهور المحلي، هذا اللون الموسيقي الأصيل المعروف بالموسيقى "العارفة" ، التي تمتاز بعمقها الروحي، وجمالها الفني.
وقدّم جاويد يحيى زاده أداءً ساحرا على آلة الناي؛ حيث تنوّع عزفه بين الألحان المستوحاة من الطبيعة. كما يعزفها الرعاة في منطقة بحر قزوين، وبين النغمات التي تحمل مشاعر إنسانية عميقة. وفي المقابل، أبدع شقيقه أحمد في الضرب على الدف، مضيفا لمسة إيقاعية، أضفت توازنا متناغما على الأداء.
وشارك في هذه الوصلة الإيرانية الفنان الجزائري وسيم القسنطيني، الذي يعرفهما منذ عام 2007. وسبق لهذا الثلاثي أن قدّموا معاً أعمالا فنية فريدة، من بينها أغنية "جاد الغيث" التي مزجت بين كلمات باللهجة القسنطينية وأخرى بالفارسية؛ في إبداع موسيقي، يعكس قدرة الفن على توحيد الثقافات المختلفة.
وفي كلمته أمام الجمهور، أعرب الأخوان يحيى زاده عن أسفهما لعدم تمكّن كامل أعضاء فرقته الموسيقية من الحضور؛ بسبب الظروف الصعبة التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط. ورغم ذلك نجح الأخوان في تقديم برنامج ثريّ، نال إعجاب الحضور. وأكدوا أنّ الموسيقى قادرة على تجاوز الحدود والصراعات، وأنها تبقى لغة السلام التي توحّد الشعوب.
ثم اعتلى الفنان وسيم القسنطيني (واسمه الحقيقي بوجنوي هواري) خشبة المسرح، عائدا إلى مدينته قسنطينة بعد سنوات من الإقامة في باريس، ليأخذ الجمهور في رحلة موسيقية، استحضرت عبق الموشّحات والأزجال الأندلسية. وقُدّمت مختارات من "نوبة السيكة" وسط تجاوب كبير من الحضور، الذي لم تمنعه برودة الطقس من الاحتفاء بابن مدينتهم.
وتألق وسيم بصوته الشجي، وأدائه المتناغم على آلة الكمان، مقدّما مقطوعات؛ مثل: "لا تُخفي ما فعلت بك الأشواق" ، و"أبو العيون عذبت قلبي الحزين". وشارك الفنان العاصمي توفيق عون، في السهرة؛ بتقديم مزيج متناغم بين الحوزي العاصمي والمالوف القسنطيني بأسلوب تصاعدي متقن، بدأه بإيقاع بطيء من خلال "قلبي وقلبك مجروح"، وصولاً إلى إيقاعات سريعة ألهبت القاعة بأغانٍ؛ مثل "يا سعد الله يا مسعود" و"طال بيا دايا". وأظهر عون تحكّما كبيرا في صوته، خاصة في مقطوعة "الناس تمرض وتبرى"، التي أبرزت قدراته الفنية العالية وسط دعم مميز من جوقة المالوف المرافقة.
أما الفنان جمال خلايفية، فقد خصّ الجمهور بتوليفة فنية رائعة بطبع رمل الماية، استحضر فيها بصمة الفنانة الراحلة سيمون تامار، التي تُعد أيقونة المالوف بولاية سوق أهراس. وقدّم خلايفية مقطوعات غنائية إنسانية وروحية، مزجت بين الحب والشوق والذكر؛ مثل "كيف العمل ربي بلاني بالمحبة" . وتميز أداؤه بطبقاته الصوتية المائزة، ليحلّق بالحضور في أجواء من الأصالة والتاريخ. وفي التفاتة مؤثرة، خصّ المهرجان الراحل صالح رحماني، بتكريم خاص؛ اعترافاً بمكانته كأحد أعمدة فن المالوف في قسنطينة، إلى جانب شيوخ كبار؛ مثل الحاج محمد الطاهر الفرقاني، والشيخ الدرسوني.
وعبّرت عائلة الفقيد عن امتنانها لهذه المبادرة، مؤكدة على إرثه الفني الغني؛ حيث عُرف بحرصه على توريث هذا الفن الأصيل، الأجيالَ القادمة. الجدير بالذكر أنّ صالح رحماني أخذ أصول الصنعة الفنية على يد شيوخه الخوجة بن جلول وإبراهيم العموشي، إضافة إلى عمله في المؤسسة الوطنية لتوزيع المواد الغذائية (أوناكو) من سنة 1963 إلى غاية تقاعده منها سنة 1997، برتبة مدير. واتخذ من البحث وممارسة فن المالوف هواية. ومارس هذا الفن متنقلا بين قسنطينة وفرنسا وإسبانيا؛ مؤلفاً وباحثاً.