رئيس الجمهورية يحاصر الطرف الفرنسي بحقائقه المخزية في ملف الذاكرة
لا مساومة ولا مزايدة بدماء الشهداء
- 254
❊ التصدي لمحاولات إحالة الملف على رفوف النسيان
يشكّل تصريح رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون بخصوص ملف الذاكرة خلال خطابه للأمة الذي ألقاه نهاية العام الماضي أمام نواب البرلمان بغرفتيه، بمثابة رسالة تذكير لباريس برفض أي مساومة بدماء الشهداء، في الوقت الذي تحاول أطراف فرنسية متطرّفة إحالة هذا الملف على رفوف النسيان من أجل محو الجرائم الاستعمارية التي تبقى وصمة عار على جبين باريس التي تتغنى بحقوق الإنسان.
وضع الرئيس تبون الطرف الفرنسي أمام الأمر الواقع بإزاحته كافة المبرّرات التعجيزية التي تكبح ملف الذاكرة، من خلال تأكيده على الطابع المعنوي الذي يحظى به هذا الملف بالنسبة للجزائر، من منطلق أن دماء الشهداء لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تضاهي أي قيمة مالية، كما لا يمكنها أن تعوّض تضحيات شعب ناضل لعقود من الزمن أشرس مستعمر عرفه التاريخ لقرن ونصف قرن.
وبذلك يكون رئيس الجمهورية قد رفع أي حرج عن باريس لتحقيق تقدّم في هذا الملف الذي مازال عالقا بسبب إصرار أطراف يمينية على استعماله كورقة ضغط ترهن به علاقات التعاون بين البلدين، بسبب مآربها التي يطغى عليها حنين "الجزائر فرنسية"، ما يحول دون تجسيد المصالحة المنشودة بين الجانبين.
ولعل في الممارسات الصادرة عن الجانب الفرنسي والتي تلقي بظلالها على راهن العلاقات الثنائية، خير دليل على تأثير هذه الخلفيات التي ساهمت في صناعتها هذه الأطراف التي ترفض مسايرة التطوّرات التي تحكم العلاقات الثنائية والمرتكزة على المصلحة المشتركة بعيدا عن أي وصاية أو نظرة استعلائية.
فعلى الرغم من بعض التصريحات السياسية التي يطلقها بين الحين والآخر الطرف الفرنسي، لم تقم باريس بالاعتراف بجرائمها أثناء الفترة الاستعمارية، بل تباينت تصريحات الرؤساء الفرنسيين عن ذلك حسب الوضعيات والمواعيد السياسية.
فقد صرح الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران في نوفمبر 1981، لدى زيارة رسمية إلى الجزائر أن فرنسا والجزائر قادرتان على التغلّب على خلافات الماضي وتجاوزها، كما وقع الرئيس جاك شيراك في مارس 2003 خلال زيارته لبلادنا "إعلان الجزائر"، الذي نصّ على "شراكة استثنائية" من أجل تجاوز "ماض لا يزال مؤلما... ينبغي عدم نسيانه أو إنكاره".
واستمر الوضع إلى غاية صدور قانون حول "الدور الإيجابي للاستعمار" بتاريخ 23 فيفري 2005، والذي اعتبرته الجزائر بمثابة "عمى عقلي يكاد يصل إلى الإنكار وتحريف التاريخ" وعلى الرغم من إلغاء القسم المثير للجدل من هذا القانون بعد عام من صدوره، لا سيما المادة 4 منه التي تعتبر تمجيدا للاستعمار، استمرت تبعاته السياسية على العلاقات بين البلدين.
كما ندّد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في نهاية 2007، أثناء زيارته إلى الجزائر بالنظام الاستعماري من دون أن يعتذر، داعيا إلى التطلّع إلى المستقبل، وكذلك صرح الرئيس فرنسوا هولاند في نهاية 2012، بـ"المعاناة التي ألحقها الاستعمار الفرنسي بالشعب الجزائري".
من جهته، وصف الرئيس إيمانويل ماكرون خلال حملته الانتخابية في فيفري 2017 أثناء زيارته للجزائر الاستعمار بأنه جزء من التاريخ الفرنسي بل وصفه بالجريمة ضد الإنسانية، ما أثار جدلا حادا في فرنسا واستياء واسعا لا سيما في صفوف اليمين، غير أن هذا التصريح لم يشهد أي تطوّر، حيث انحصر فقط باستعداد باريس لتقديم خطوات رمزية لمعالجة ملف استعمار وحرب الجزائر، دون تقديم أي ندم أو اعتذار.
وتصر باريس على المضي بسياستها وفق مبدأ المدّ والجزر، مع اعتماد أسلوب الكيل بمكيالين في التعاطي مع ملف الجرائم الاستعمارية، حيث لم يتوان الرئيس الأسبق جاك شيراك مثلا في الاعتراف بجرائم بلاده على مستوى بعض المستعمرات الفرنسية السابقة في إفريقيا في الوقت الذي تحرص فيه باريس على الحفاظ على تكريم الحركى الجزائريين سنويا مع تقديم اعتذاراتها لهم.
والواقع أن الرسائل التي تضمّنها خطاب رئيس الجمهورية قد حسمت للمرة الألف موقف الجزائر إزاء هذه المسألة، من منطلق أنه لا يمكن التفريط قيد أنملة في ذاكرة الشهداء التي لا تقبل أي مزايدة وأنه لا يمكن الوثوق في كل من يتنكر لرسالة الشهداء والمجاهدين، كون تضحياتهم الجسيمة في سبيل تحقيق الحرية والاستقلال لا يمكنها أن تستوفي أي قيمة مالية، حيث أعطى في هذا الصدد مثالا عن البشاعة والأثار اللاإنسانية التي خلّفها المستعمر بسبب تجاربه النووية في صحراء الجزائر في الوقت الذي ترفض فيه باريس إلى حد الساعة تحمل مسؤوليتها بتنظيفها.