الدكتور عاشور فني ضيف "الجاحظية":
الوعي العلمي في الجزائر عرف تحوّلات عدة

- 173

ركز الدكتور عاشور فني، مؤخرا بمقر جمعية "الجاحظية"، في مداخلة بعنوان "الثقافة وتحوّلات الوعي في الجزائر"، على ترابط "الوعي العلمي" في الجزائر بوصفه الفهم القائم على المعرفة العلمية الحديثة، بالتيارات الفكرية والثقافية التي نشأت مع الحركة الوطنية، واستمرت خلال الاستقلال، وعملت على نشر الوعي منذ بداية الحركة الوطنية والإصلاحية، إلاّ أن هذا الوعي عرف عدة تحولات بفعل عوامل مختلفة.
قدّم الدكتور في مداخلته متابعة دقيقة للمراحل التي تطوّر فيها الوعي العلمي مع تحوّلات الثقافة السياسية في المجتمع. والبداية بالمجتمع التقليدي الجزائري الذي ترسّخت فيه فكرة الانتماء المباشر للجماعة المحلية، المتمثلة في القبيلة والعشيرة مع الارتباط بفكرة الزاوية أو الطريقة الصوفية، والتي قادت المقاومة ضدّ المحتل، وعملت على التحكّم في المجتمع في ظلّ تعدد الولاءات القبلية والطرقية.
وتابع المتدخّل أنه مع بداية القرن العشرين، خاصة منذ الحرب العالمية الأولى، بدأت التوجّهات الإصلاحية مع بروز الحركة الوطنية التي اشتدّ عودها مع الأمير خالد في نهاية الحرب العالمية الأولى، ونشأة نجم شمال إفريقيا في منتصف عشرينات القرن العشرين.
واعتمدت هذه المرحلة على الأفكار السياسية الحديثة؛ مثل المطالبة بالحقوق، والعدل، والمساواة، والحرية، مع اعتماد أشكال التنظيم الحديثة. وعملت على نشر الوعي الوطني الذي يتجاوز الانتماءات القبلية والطرقية. وهنا التقى التيار الوطني الثوري مع التيار الإصلاحي في الإيمان بدور العلم والمعرفة، في تغيير سلوك الأفراد، ورفع مستوى الوعي الاجتماعي والسياسي.
وأضاف الدكتور أنّ خلال حرب التحرير تمكّن التيار الوطني الثوري من الاستيلاء على قيادة الثورة. وعمل على نشر الوعي الثوري الذي لا يقبل التعامل ولا التعايش مع الاحتلال، مع فرض أساليب عمل جديدة، تمثّلت في وحدة القيادة السياسية من خلال جبهة التحرير الوطني، ووحدة العمل العسكري من خلال جيش التحرير الوطني. وفي ظل هذه الأوضاع الثورية أُسّست نقابات العمّال، والطلبة، والتجار، والفرق الفنية والمسرحية، والرياضية، وكانت كلّها حاملة لنوع جديد من الوعي الثوري الذي يمنع الولاءات القبلية والجهوية، ويفرض نوعا صارما من الانضباط في السلوك والعمل، والالتزام بالهدف الوطني، المتمثل في الاستقلال.
أما غداة الاستقلال واستعادة السيادة الوطنية، يقول فني، فتأسّست الدولة الجزائرية الحديثة على مبادئ التيار الوطني الثوري، الذي جمع جلّ القوى الوطنية على هدف واحد، هو البناء الوطني، واستكمال السيادة الوطنية، مع العمل على استمرار الوعي الثوري الحامل للوعي الوطني القائم على الأفكار الحداثية، المتمثّلة في حقّ المجتمع في التعليم، والصحة، والحقوق الاجتماعية، والمشاركة في البناء الوطني؛ من خلال مشروع تنموي يقوم على تحويل الأوضاع الاقتصادية عبر التصنيع والإصلاح الزراعي. واستمر ذلك حتى منتصف الثمانينيات، يضيف فني.
كما أشار ضيف "الجاحظية إلى أنّه في مرحلة التعددية السياسية، استعادت القوى السياسية حقّها في التعبير. وانصبت الانتقادات على المرحلة السابقة برمتها. ونتيجة فشل إدارة الانتقال من الأحادية إلى التعددية دخلت البلاد في أزمة متعددة الأبعاد، وبذلك تراجع إرث "الوعي العلمي" الوطني الذي استمر منذ الحركة الوطنية. وعمّت "فوضى الوعي".
وبالمقابل، قدّم عاشور فني عدّة ملاحظات حول المرحلة الممتدة من نهاية القرن العشرين؛ مثل تراجع دور المدرسة والجامعة لأسباب عديدة حتى صارت المدرسة في كثير من الأحيان، تجد صعوبة في أداء مهمتها الرئيسة، المتمثلة في التعليم والتربية، وكذا تراجع دور الجامعة في أداء الوظائف المسندة إليها، ومنها الوظيفة الأكاديمية، والبحثية، والعلمية، والثقافية، علاوة على تراجع التغطية الإعلامية الوطنية؛ سواء من حيث نطاق نشر الإعلام على المستوى الوطني، أو من حيث تغطية الأخبار والتحقيقات الصحفية والتلفزيونية للتراب الوطني.
أما من حيث شبكات التواصل الاجتماعي فرغم تزايد عدد روّاد هذه الشبكات على المستوى الوطني، إلا أنّ المحتوى الذي توفره مازال يثير كثيرا من التساؤلات من حيث النوع والكمّ. وتطرق فني لتراجع دور النخبة الوطنية في الحياة الثقافية والوطنية، وانعدام تأثيرها في الأفكار، وانغلاق الساحة الفكرية والإعلامية، وندرة منابر الفكر والثقافة والتعبير، وانصراف جزء من النخبة إلى البحث عن المجد الشخصي عبر الجوائز الخليجية والفرنسية، وهو ما يهدد بمخاطر شتى في الوقت الذي تزداد أهمية الثقافة عبر العالم؛ باعتبارها "قوة ناعمة"، لها تأثير على المستوى الوطني والدولي.
وتحدّث الدكتور، أيضا، عن انتشار مراكز البحث والفكر الكبرى التي تمثل أقطابا للإنتاج العلمي، ونشر التحاليل، والتقارير التي تمثل مرتكزا لاتخاذ القرار في الدول الصناعية، في الوقت الذي مازالت مراكز البحث الوطنية والمخابر الجامعية تعاني من هيمنة النظرة البيروقراطية، وقلة التجهيز، وضعف الفعالية، ليؤكد أن صناعة الوعي العلمي في الجزائر كانت وراء صنع التحولات الثقافية والسياسية عبر الحركة الوطنية، وثورة التحرير والبناء الوطني، لكنها صارت ضحية هذه التحولات.
ومن جهته، قدّم الدكتور أحمد رميتة في مداخلته الموسومة بـ "إشكالية المعرفة العلمية في الجزائر"، نظرة عامة عن الوعي العلمي، ودوره في المجتمع، وارتباطه بحاجة المجتمع إلى المعرفة العلمية. وطرح عدة تساؤلات حول الوعي العلمي، ومدى انتشاره في المجتمع، ودور المؤسسات والفاعلين الاجتماعيين في نشر الوعي العلمي بناء على الإنتاج المعرفي.
وأشار رميتة إلى أن المجتمع الجزائري عرف أشكالا من الوعي؛ منها العلمي، ومنها الوعي الديني، ومنها ما هو سابق للوعي الديني، متسائلا عن سبب هذا التعايش ما بين هذه الأشكال وتجاورها. كما قدّم تقديرات حول عدد المؤسسات البحثية، المتمثلة في مراكز البحث العلمي ووحدات البحث، متسائلا، مجددا، عن فعالية هذه المؤسسات بسبب هيمنة التصور البيروقراطي للبحث العلمي، وعن مدى قدرة هذه المؤسسات والهياكل على نشر الوعي العلمي في المجتمع.