بعد 55 سنة من الاستقلال

الاقتصاد الوطني أمام منعرج حاسم

الاقتصاد الوطني أمام منعرج حاسم
  • القراءات: 1766
جميلة.أ جميلة.أ

يقف الاقتصاد الجزائري اليوم أمام منعرج حاسم، منعرج اقتضته الضرورة والمتغيرات الدولية التي فرضت نهجا براغماتيا محضا .. جزائر 2017 بمتغيراتها وتحدياتها الجديدة، قررت الانتقال «وبشكل مستعجل» من اقتصاد البترول إلى آخر، قائم على سواعد أبنائها، من خلال وضع برامج وخطط لتحقيق نمو اقتصادي ورفع معدل النمو إلى نسب عالية آفاق 2030 خارج المواد النفطية التي تشكل عصب الاقتصاد الجزائري، وهي المواد التي أدت كنتيجة لذلك إلى دخول الجزائر في أزمة اقتصادية، بما أن أسعارها تراجعت دوليا..55 سنة بعد تحقيق السيادة الوطنية، باشرت قيادة البلاد معركة تحرر جديدة تستهدف اقتصادها الذي انتهج استراتيجية مغايرة لتحقيق النمو بتشجيع عالم الأعمال والاستثمار ومناخ الأعمال ووضع المؤسسة في قلب كل سياسة. 

يحيي الشعب الجزائر هذا العيد وكله تفاؤل واستبشار بالإصلاحات السياسية والاقتصادية، والاجتماعية الشاملة، المعلن عنها والتي فتحت المجال على تحول نوعي عميق في حياة الجزائريين والجزائريات، ومهدت الطريق لبناء مؤسسات تستجيب لتطلعات الأجيال الجديدة في بناء اقتصاد قوي وفضاءات سياسية ثقافية واجتماعية تتماشى و»ريتم» القرن الواحد والعشرين، المتميز بالعولمة المتزايدة والسرعة المفرطة والمتغيرات المتتالية.

وقد انكبت الحكومات الجزائرية المتعاقبة منذ الاستقلال على معالجة والتكفل بالعديد من المجالات الحياتية والمنظومات. وعلى مدار 55 سنة، شهد الاقتصاد الجزائري تطورا هاما منذ 1962 تاريخ استقلال الجزائر، وذلك حسب احتياجات السكان الذين ما فتئوا يطالبون بتغيير الإطار المعيشي والمطالبة دوما بالمزيد والجديد للوصول إلى مستوى الرفاهية، غير أن التطور الحقيقي والنقلة الهامة التي شهدها الاقتصاد تكمن في تخلص الجزائر من الديون وضغوط المؤسسات المالية الدولية وهي الخطوة التي استطاع من خلالها الرئيس بوتفليقة أن يحرر الاقتصاد الجزائري..

الرئيس بوتفليقة، وعلى مدار فترات حكمه، اتخذ قرارات جريئة في جميع مناحي الحياة .. وها هو اليوم يقر خطوات أكثر جرأة في سبيل تحرير الاقتصاد من تبعيته للمحروقات في خطوة ترمي إلى التكيف مع الواقع الدولي الجديد الذي أدخل الاقتصاد في منعرج حاسم هو الأول منذ الاستقلال.

ساهمت إرادة الرئيس بوتفليقة السياسية وعزمه القوي على إخراج الاقتصاد الجزائري من دوامة الانهيار من خلال الإصلاحات الاقتصادية التي باشرها والمتمثلة في إنشاء المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وكذا التنمية الفلاحية التي انتعشت بشكل كبير بدليل الأرقام الايجابية المسجلة خلال السنوات الأخيرة. والأهم من هذا وذاك، تخلص الجزائر من عبء المديونية وتصفية مشاكلها العالقة مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ونادي باريس ونادي لندن، وهي الخطوة التي اعتبرها المحللون الاقتصاديون بمثابة التحرر الفعلي للاقتصاد من قيود المديونية والضغوط الخارجية.

وذهبت الجزائر إلى أبعد من ذلك، فإلى جانب قدرتها على تسديد كامل مديونيتها، فقد أصبحت قادرة على ضمان أكثر من ثلاث سنوات من الاستيراد لتغذية المواطن وتسيير الاقتصاد بناء على استيراد المواد الصناعية والتكنولوجيات الحديثة، بالإضافة إلى فتح المجال للبنوك الجديدة لخلق جو من المنافسة النوعية والتي دفعت المواطن إلى العمل برؤية جديدة وقوية. وقد تحولت الجزائر اليوم إلى أكبر ورشة عمل في حوض المتوسط وشمال إفريقيا بفضل المخططات الاقتصادية الخماسية وذلك ما يؤكد أن بلادنا قد دخلت نهائيا في الخدمات الكبرى وبناء سوق قوي يبوؤها مكانة محترمة من ناحية السياسة الخارجية والدبلوماسية.

وبعد 55 سنة من الاستقلال، يجدد الشعب الجزائري عزمه وتمسكه على مواصلة مسيرة النضال والبناء بقيادة من صنعوا الانتصار، يتقدمهم رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة، وهو ملتف -أكثر من أي وقت مضى - حول استقلال وسيادة هذا الوطن ليتمكن بفضل قيم الثورة المترسخة فيه من أن يخرج منتصرا في حربه ضد الإرهاب، مثلما خرج بالأمس منتصرا في ثورته ضد الاستعمار، وحافظ على قيم الجمهورية والحرية والسيادة والسلم..

وسيواصل هذا الشعب بقيادته، شق طريقه على درب التنمية الشاملة، بعد أن أكد انخراطه القوي في مسعى إنجاز مخططات التنمية الاقتصادية المتتالية خلال السنوات الأخيرة، والتي تمثل استحقاقا وطنيا تتحقق به تطلعات وآمال الشعب الجزائري في الرقي والازدهار والرفاه، وسيستعيد الشعب  وبافتخار أمجاد الآباء والأجداد الذين لهم علينا واجب الوفاء لتضحياتهم.

الاقتصاد الوطني يتحرر بعد 55 سنة من الاستقلال

تشير الأرقام والمعطيات الجديدة إلى أن الحكومة الحالية استخلصت الدروس والعبر من سابقاتها، ورسمت مخطط عمل خاص تركز فيه الجهود للحد من الاستيراد، دون إحداث أي ندرة أو خلل في تموين السوق وحماية الإنتاج الوطني وترشيد عمليات الاستيراد.. خطة عمل الحكومة ستعمل وفق الأرقام المعلنة على تقليص واردات الكماليات ومكافحة الفوترة المبالغ فيها، وكذا تقليص العجز في الميزان التجاري من 16 مليار دولار عام 2016 إلى أقل من 10 مليارات دولار مع نهاية العام الجاري .. علما أن فاتورة الاستيراد تقلصت من 60 مليار دولار في 2014 إلى 46 مليار دولار في 2016.

الانتقال الاقتصادي للحكومة لن يجرها إلى خيار الاستدانة الخارجية لتنفيذ محاور مخطط عملها، وسيتم الاعتماد على الموارد الذاتية التي يتعين ترشيدها أكثر، في إطار البحث عن الحلول الكفيلة بالحفاظ على التوازنات المالية الكبرى.. هذا النهج يستند إلى معطيات واقعية تؤكد أن مشاكل الاقتصاد لا تكمن أبدا في نقص الموارد المالية، وهو ما تطلب دخول مرحلة تقتضي ترتيب الأولويات، علما أن الانتقال من نمط اقتصادي إلى آخر، يتطلب الوقت الكافي.

الأزمة الاقتصادية دفعت الحكومة إلى العمل في إطار تسخير موارد تمويل مخططها على ضمان تحكم أكبر وأنجع في الموارد المالية، خصوصا في احتياطي الصرف الذي قدرت قيمته الحالية بـ114 مليار دولار، وكذا في نسبة التضخم، ومواصلة إصلاح المنظومة الجبائية التي تعتبر أساس التنمية، «ولذلك سيتم توسيع الوعاء الضريبي ورفع الرسوم على المنتجات الكمالية والعمل على إعفاء ضريبي أكبر وأوسع لمحدودي الدخل، حفاظا على قدرتهم الشرائية، بينما ستشدد الحكومة من إجراءاتها الضريبية على أصحاب الثروات الضخمة.

دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وحل مشاكل شباب «أونساج» هي محاور أخرى أدرجتها الحكومة ضمن آليات التحول الاقتصادي الذي يتوخى تحقيقه، والذي يقتضي دعم نسيج المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ومرافقتها عبر جميع مراحل تطورها، باعتبارها الركيزة الأساسية لتنويع الاقتصاد المستحدث للثروة ولمناصب الشغل. وتحرص الحكومة على مكافحة الغش والمضاربة في مجال العقار الصناعي، ما دفعها إلى اللجوء إلى إطلاق إحصاء شامل ودقيق للوعاء العقاري الصناعي لتحديد الفضاءات غير المستغلة، مع الانطلاق «في القريب العاجل» في استحداث مناطق نشاط توجه خصيصا للشباب المستثمر عبر العديد من الولايات.

التركيز على مؤهلات القطاع الفلاحي الذي ستمنح له الأولوية ليكون مصدر مهم للعملة الصعبة وقاطرة أمامية للنمو، خاصة من خلال دعم قدراته التصديرية. كما سيعرف قطاع السياحة من جهته نفس الاهتمام من قبل الحكومة، مع مواصلة الحكومة سياسة دعم السكن بمختلف صيغه، وإعادة تأهيل النسيج العمراني، بالإضافة إلى الدعم الاجتماعي الذي سيخضع لأول مرة إلى مراجعة شاملة بعد فتح مشاورات مع كل الشركات بشأنه.

اعتراف دولي بإصلاحات الجزائر وقدرتها على النجاح

ونحن نستعرض ما تحقق من تطور ونمو اقتصادي للجزائر بعد سنوات من الإصلاح، لابد أن نشير إلى أن ما تقوم به الجزائر يبقى تحت أعين ومراقبة الهيئات الدولية التي تتبع أبسط الخطوات والقرارات المتخذة والتي لاقت الانتقاد تارة والتشجيع تارة اخرى. ونشير هنا إلى ما قاله رئيس بعثة صندوق النقد الدوليللجزائر جون فرنسوا دوفان، عندما اعترف صراحة أن الجزائر قادرة على الخروج من التبعية للمحروقات وتنويع اقتصادها بعد أن انتهجت إصلاحات طموحة. وأشار المسؤول نفسه إلى أن الاقتصاد الجزائري يعاني من تبعية مفرطة للمحروقات وهبوط أسعار النفط منذ 3 سنوات، ولا تزال آثاره قائمة حتى اليوم، موضحا أن المهم للجزائر يكمن في رفع التحديات وتحويلها إلى فرص من أجل تعديل نموذج تنمية الاقتصاد الجزائري مثلما تنوي السلطات فعل ذلك، مضيفا بالقول «نعتقد فعلا بحكم الإصلاحات الطموحة أنه بإمكاننا تحويل الاقتصاد إلى التنوع والتقليل من التبعية للمحروقات وإعطاء دور هام للقطاع الخاص.. وهو ما يضمن تنمية مستدامة وخلق فرص عمل بشكل دائم...

وجاء في تقرير المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي الأخير، الذي اختتم مشاوراته مع الجزائر لعام 2017 ، أن الجزائر لا تزال تواجه تحديات كبيرة فرضها تراجع أسعار النفط، لكن النشاط الاقتصادي حافظ على صلابته مع تراجع في نمو قطاعات خارج المحروقات تحت تأثير تقلص الإنفاق العام.. ودعا التقرير الجزائر إلى مزيد من إجراءات «الضبط المالي»، وعبّر عن تأييده للخطوات المتخذة لتقليص عجز الموازنة العامة والسيطرة على الإنفاق العام.

مراحل تطور الاقتصاد الجزائري منذ 1962

أجمع اقتصاديون أن الاقتصاد الجزائري قطع أشواطا كبيرة منذ الاستقلال، خاصة وأن الاقتصاد الوطني كان منهكا بسبب الاستعمار الفرنسي والذي كان من الصعب استدراكه وإعادة بنائه، غير أن إرادة الرجال استطاعت أن تخرج الجزائر من محنتها فتم تبني نظام اقتصادي وتم استرجاع الممتلكات والأراضي الفلاحية وتوفير احتياجات السكان الضرورية كإنشاء المدارس والمستشفيات وتوفير الماء والكهرباء وغيرها.

وقد أعطى الاقتصاد المسير بسواعد رجال ونساء الجزائر نسيجا صناعيا وماليا مكن الجزائر خلال فترة معينة من العمل وفق المقاييس المقبولة وذلك ابتداء من سنوات السبعينيات ليشرع بعدها في البحث عن آراء جديدة ونظام جديد بناء على التحولات الدولية وبناء على التحسن التدريجي للمستوى المعيشي للمواطن وكذا المطالب الجديدة للسكان.. وفي منتصف الثمانينيات، اصطدم الاقتصاد الجزائري بمشاكل دولية بسبب انهيار سعر البترول الذي ساهم في انهيار الدينار لتدخل الجزائر في أزمة اقتصادية ثقيلة أدت إلى فشل مالي واستثماري وظهور برامج لتفادي الندرة..

وتميزت بداية التسعينيات ببروز توجهات جديدة بدءا بتغير نظام التسيير وكذا النموذج الاقتصادي، لكن وقوع الجزائر في مشكل العشرية السوداء أدت إلى تسجيل تأخير كبير وتوقيف عجلة التنمية بها ناهيك عن الضغوطات السياسية والمالية والدولية.

وعقب الاستقلال، غرقت البلاد في فوضى بسبب نقص المؤهلات ..وواجه «أحمد بن بلة» الرئيس بن بلة المعضلة بالهيكلة المركزية الاشتراكية، التي أعطت الدولة سلطتها التامة على اقتصاد البلد. مساوىء الاشتراكية في التسيير ظهرت بعدها خلال فترة قصيرة، وجاء «هواري بومدين» الرئيس بومدين عام 1965 بعد انقلاب جوان، وكان أكثر واقعية، وخلقت سنوات 1967-1969 المعروفة بمرحلة التخطيط في 1970 ما يعرف بأمانة الدولة للتخطيط المركزي، التابعة لوزارة المالية، والتي جسدت رغبة السلطة في الاستثمار الاجتماعي والمالي. وقامت الأمانة بإنشاء المخطط الأول 1970-73 ثم المخطط الثاني الرباعي 1974-77 الذي غير التوجه الزراعي إلى الصناعي. ظهرت بعدها سياسة الترقيع بين 1977-79 لخلق استراتيجيات أخرى.

فترة «الشاذلي بن جديد» الرئيس الشاذلي بن جديد عرف عنها أنها كانت الأكثر واقعية، حيث شهدت بروز المخطط الخماسي 1980-84 ثم الخماسي الثاني 1985-89 موجها لتنويع مداخيل البلد، مبرزة نظرة الرئيس الأقل مثالية...سنوات 1978. 1985-89 شهدت اهتماما أكبر بالقطاع الزراعي، استقلالية تجارية مع ردم أمانة ووزارة التخطيط السابقة. أما سنوات حكم اليمين زروال 1994 و1998 التي سلكت نهجا ليبراليا، فقد صاحبها انفتاح في الاقتصاد مع فتح رؤوس البنوك العمومية ...

الرئيس بوتفليقة، ومنذ توليه سدة الحكم، لم يتوقف في إقرار تدابير اقتصادية متتالية جعلت البلاد في وضع آمن، بالرغم من تراجع أسعار البترول الذي لم يلغ تسجيل مؤشرات إيجابية على اعتبار أن الجزائر من بين البلدان المنتجة للبترول القليلة التي لا تزال تستحدث مناصب  شغل وتحقق نسبة نمو اقتصادي  في مستوى 3.9 بالمائة.