الكرة الطائرة (جلوس) للمعاقين
عندما تروض الإرادة الجسد
- 3368
المداوم على مختلف القاعات الرياضية بالوطن وخاصة القاعة متعددة الرياضات «عيسى حمدان» بحي مديوني بمدينة وهران، ولو من باب الفضول، يكون شدته لعبة بدأت تجد لها مكانا على مر السنوات في الساحة الرياضية الجزائرية بفضل النشاط الرياضي الدؤوب والمستمر للمنتسبين إليها، وهذه الرياضة المعنية بالكلام هي «الكرة الطائرة (جلوس) للمعاقين».
إن اقتفاء أثر وخطوات ولادة هذه اللعبة عالميا سيقودنا إلى مفارقة غريبة، ذلك أنها خرجت إلى الوجود من رحم الحروب الفظيعة والمقززة، التي غالبا ما يكون جرد مخلفاتها من مآس وجراح عسيرا جدا، وعليه رأى من رأى أن هذه المخلفات على بني البشر يمكن أن تُستغل إيجابا للتخفيف من وقعها عليهم، فاهتدى الألمان والروس عقب الحرب العالمية الثانية، إلى ابتكار لعبة ينشطها ضحايا هذه الحرب الضروس، الذين خرجوا منها بإعاقة دائمة، وخاصة الحركية منها، فجاءت الكرة الطائرة (جلوس) للمعاقين، ليلتقط الإيرانيون خيط الفكرة ويطوروها.
استمرت اللعبة في النبض، ولم تُخنق في بحر التنافس المليئ بشتى أنواع الرياضات مادام العرب كان لهم نصيب في التعاطي معها من خلال استيرادها والإتيان بها، ومن ثم ممارستها، ليبدع فيها المصريون، ويحوزوا على التصنيف الرابع عالميا وقتذاك، وتستمر رياضة الكرة الطائرة (جلوس) للمعاقين في الترحال من رقعة أرضية إلى أخرى ومن زمن إلى آخر.
الزمن الجزائري - الوهراني من الاستعراض إلى المنافسة الرسمية
جاء الزمن الجزائري الذي لم يشأ أن يبقى ملتصقا بعقدة التخلف في كل نشاط رياضي عالمي. وقررت عقول خبيرة إدخال رياضة الكرة الطائرة (جلوس) للمعاقين إلى الجزائر بعدما لفتت انتباهها تقنيات هادرة عبر شاشة التلفاز قادمة من رقع أرضية بعيدة، وتحديدا من روسيا وإيران، كان هذا بداية تسعينيات القرن الماضي، فالتُقطت هذه المشاهد التي ما فتئت أن تحولت إلى أفكار تلاقحت لتفرز الكيفية المرغوبة في ولادة هذه اللعبة، التي يقول السيد براجة الحاج المدرب الوطني السابق والمدير المنهجي السابق للرابطة الوهرانية للكرة الطائرة، عن مخاضها: «تُعد الرابطة الوهرانية للكرة الطائرة أول رابطة في الجزائر وضعت أسس رياضة الكرة الطائرة (جلوس) للمعاقين سنة 1994 بفضل نضوج أفكار مجموعة من الفاعلين في الحقل الرياضي بوهران، وهم: صقال حميدة، كازي تاني سيدي محمد، صاري علي، طويل عمر، كفيف عبد القادر وشقني سليم. وبداية ظهور هذه اللعبة كانت عبر إجراء دورات استعراضية للكرة الطائرة الشاطئية على الساحل الوهراني، خاصة بمركب الأندلسيات وبمشاركة فرق كرة السلة لفئة المعاقين مثل فريقي ابتسامة وهران (إناث) وتفاؤل وهران (ذكور)، وقتها جلبت جمهورا عريضا، اقترب من فعاليات هذه اللعبة الجديدة من باب الفضول، باعتبارها رياضة لا تتطلب الكثير من الإمكانيات مثل الكراسي المتحركة، وهلم جرا...».
هذه الدورات الاستعراضية رغم طابع التسلية الذي انفردت به عند البعض، إلا أنها جذبت المرجو، عندما قامت الاتحادية الجزائرية لذوي الاحتياجات الخاصة موسم (2002 -2003) بإدراج الاختصاص ضمن برنامجها السنوي، وأسست فرعا خاصا للكرة الطائرة (جلوس) للمعاقين. وقد أشير بالأصبع والامتنان إلى المدير التقني الوطني للاتحادية الجزائرية لرياضة المعاقين السيد مومن عبد القادر زين العابدين، عن دوره الكبير في إعطاء دفع لهذه الرياضة، خاصة أنه مدرب ولاعب سابق للكرة الطائرة.
لم تكتف الاتحادية بتأسيس فرع خاص بهذه اللعبة، بل تعدته إلى تصويب الأماني وتحويلها إلى مقاصد بدأت تتجسد الواحدة تلو الأخرى، حيث عمدت الاتحادية إلى انتداب مختصين بغرض تلقين قوانين اللعبة للمدربين والحكام واللاعبين، منهم 32 في مدينة وهران سنة 2001. وبهذا الخصوص يدلي براجة الحاج بدلوه، ويقول: «بعد جلبنا فكرة إنشاء هذه الرياضة سعينا لتطويرها حتى لا تكتفي بالاستعراض فقط، ومع جهلنا قوانينها الدولية تكفلت السيدة زناي، وهي مختصة في رياضة الكرة الطائرة (جلوس) للمعاقين، بجلب كل ما يتعلق بهذه اللعبة من الخارج، خاصة في مجالي التدريب والتحكيم، لتتضح لدينا الرؤية حول كيفية ممارستها، لكن أهل الاختصاص برابطتنا الوهرانية واصلوا البحث والتمحيص عن كل ما هو مفيد لهذه الرياضة، التي انفردت بطابعها المميز خاصة بعد انطلاق منافسات رياضية خاصة بها. وما زاد من تفردها عدم إلحاحها في التجهيز الرياضي، حيث لا تستلزم سوى توفير كرة وشبكة وقاعة، لأنه لا يمكن أن تمارَس هذه اللعبة خارجها، فهي لا تتطلب توفير كرسي متحرك، والذي يكلف غاليا».
كل هذه المساعي المضنية كان لا بد لها أن تكافَأ على قدر جهدها، وآن أوان المكافأة، بداية بإقامة مقابلة استعراضية موسم 2003- 2004 بقاعة حرشة حسان بالجزائر العاصمة تحت شعار «لا للعنف»، فاز بها فريق محمد بوضياف لوهران على نادي شالية باتنة بنتيجة ثلاثة أشواط لصفر (3 ـ 0)، لتضاء شمعة أخرى في درب هذه اللعبة بانطلاق أول منافسة رسمية موسم 2004- 2005 بمشاركة ثلاثة أندية، إذ فضلا عن الناديين السابقين التحق بهما نادي بريان لولاية غرداية، ثم فريق رابع موسم 2005 ـ 2006، وهو فريق بوسعادة، ليصبح العدد ستة أندية مع إقلاع موسم 2006- 2007 بانضمام اتحادي الشلف وجيجل، وتتلاحق الفرق، فسجلت بجاية، مستغانم، تيزي وزو، الجزائر العاصمة، قسنطينة وبسكرة حضورها، ووفق ذلك عمدت الاتحادية الجزائرية لذوي الاحتياجات الخاصة إلى إجراء بطولة هذه الرياضة وكأسها على شكل دورات؛ ناشدة ارتقاء المستوى، وفي نفس الوقت حرصا على خزائن الفرق، التي هي فارغة أصلا. وقررت وقتذاك أن ينشط المتأهلان المقابلة الافتتاحية لنهائي كأس الجزائر للكرة الطائرة لـ «الأصحاء» (أكابر ذكور). وقد كشفت دورات بطولة المواسم الأولى للبطولة الوطنية لهذه اللعبة، قوة الكرة الطائرة الباتنية الممثلة في نادي شالية باتنة الذي استحوذ على ألقابها، وتتويجات كأس الجزائر.
الفريق الوطني لبنة محفزة أخرى
بعد إطلاق البطولة الوطنية ومنافسة كأس الجزائر التفت القائمون على شؤون هذه الرياضة لتأسيس فريق وطني يكون له نصيب في الدفاع عن الألوان الوطنية؛ أسوة برياضات أخرى، وينقل مستوى ممارسة هذه اللعبة داخل البلاد، بالإضافة إلى الاحتكاك مع دول أخرى لتصليب عودها وجلبا للخبرة لممارسيها.
وشهدت سنة 2008 وضع أول لبنة لتشكيل فريق وطني. ويكشف براجة الحاج المدرب الوطني السابق، أن أول تربص أقيم للتشكيلة الوطنية الفتية كان بمدينة الشلف، تم خلاله انتقاء 25 لاعبا أغلبهم من فريقي محمد بوضياف لوهران ونادي بريان. ويضيف في هذا الشأن: «حصول فريق محمد بوضياف على لقب دورة المغرب العربي بتونس سنة 2008، حفّز الاتحادية الجزائرية لذوي الاحتياجات الخاصة على المضيّ قدما للدفع بالفريق الوطني والسماح له بالمشاركة في مختلف المواعيد الدولية القارية منها والعربية، كالبطولة العربية - الإفريقية التأهيلية إلى بطولة العالم بأوكلاهوما (و.م.ا) التي جرت بمصر سنة 2010. تحصّلنا على الرتبة الثالثة، وقد عانينا من انحياز التحكيم المصري لمصلحة ليبيا، كثأر منه على إقصاء فريقنا الوطني لكرة القدم نظيره المصري من سباق مونديال 2010 بجنوب إفريقيا، لتتوالى بعدها مشاركة الفريق الوطني للكرة الطائرة جلوس، ليحط الرحال بتونس ويشارك في بطولة المغرب العربي، ويتحصل على لقبها بعد فوزه على ليبيا في لقاء ثأري، ثم التواجد بعدها في دورات أخرى».
انسحب المدرب الوطني براجة الحاج من تدريب الفريق الوطني سنة 2014، مرافقا رئيس الاتحادية الجزائرية لذوي الاحتياجات الخاصة المنتهية عهدته سيد أحمد العسري، وخلفه مدرب كفء؛ عبد القادر كفيف، الذي يمرن في نفس الوقت فريق محمد بوضياف، ولايزال هذا المدرب ممسكا بالحبلين إلى اليوم. وفي عهده شاركت النخبة الوطنية في مواعيد دولية أخرى، وجلبت نتائج مقبولة، منها الرتبة الثالثة في البطولة الإفريقية، واقتحم البطولة العالمية ببولونيا.
ويؤكد براجة الحاج، كتقييم لمشوار لعبة الكرة الطائرة جلوسا للمعاقين على مدى أكثر من عقد من الزمن، يؤكد أن الفريق الوطني للكرة الطائرة جلوسا، بدأ يكسب عشاقا ومتابعين، وقد يصل أفقا رحبا إذا ما رافقته تحفيزات ضرورية. ويضيف في هذا الخصوص: «بكل صراحة، الفريق الوطني للكرة الطائرة جلوسا بدأ يأخذ شعبية، ولكن لم يعطوه حقه كما يجب، لأن بعض من في الاتحادية الجزائرية لذوي الاحتياجات الخاصة، يفضلون الرياضات الفردية كألعاب القوى مثلا؛ أي أنهم يستثمرون في هذه الرياضات لاعتقادهم أنها جالبة للمال عوض الاعتناء بالكرة الطائرة جلوسا. أما عن أفق هذه اللعبة فأعتقد أنه سيكون وضاء بتوسع ممارستها، وكثرة الفرق ستجلب النوعية. ومقارنة بمنتخبات دول أخرى كليبيا ومصر التي دخل لاعبوها الاحتراف، فلاعبونا يعانون اجتماعيا؛ إذ لا يمكن إلا أن أقول بأن مشوار الفريق الوطني مشرّف للغاية».
نادي محمد بوضياف.. الصفحة الناصعة
يُعد فريق محمد بوضياف لوهران مثلا حيا على نجاح لعبة الكرة الطائرة جلوسا للمعاقين بالجزائر، والظفر بمكانة لها في عالم رياضي مزدحم بشتى أنواع اللعب والرياضات. وفي الجزائر أضحى هذا النادي قدوة للمثابرة والكد منذ تأسيسه في تسعينيات القرن الماضي. ومن العجب أن بداياته الأولى كانت بتأسيس فريق للسباحة قبل أن ينتقل نفس الرياضيين إلى ممارسة الكرة الطائرة جلوسا، التي وجدوا ضالتهم فيها لكن للأسف على حساب فرع السباحة الذي اندثر. وعزا رئيس الفريق لأكثر من 15سنة قبلي قاسم ذلك إلى قلة الإعانات المالية، التي لم تسمح بمزاولة اللعبتين معا رغم أن فريق السباحة حقق ألقابا وطنية عديدة. غير أن النجاح الكبير كان مع الكرة الطائرة جلوسا، بدليل السيطرة الكبيرة التي فرضها نادي محمد بوضياف على منافسيه، وقبضته القوية على التتويجات، إذ حقق إلى حد الآن عشر ثنائيات متتالية (بطولة وكأس).
ويُرجع المدرب السابق براجة هذه السيطرة إلى العمل الجدي والانضباط والعون الكبير من قبل السلطات المحلية والوقوف الرجولي لمدربيه، ومنهم الحالي كفيف عبد القادر، والرئيس السابق قبلي قاسم، الذي خلفه منذ سنة نتاج عبو عادل.
مشاكل اللعبة في تجاهل منشطيها..!
يرى الفاعلون الأساسيون في عالم الكرة الطائرة (جلوس) للمعاقين، أن مشاكل عدة لازالت جاثمة على صدور الممارسين لها لا تشجّع على الاستزادة من الفرق والمنخرطين بها، منها نقص الدعم المالي المرصود للفرق، وبعض الإجراءات البيروقراطية على مستوى بعض المراكز المتخصصة، التي تلجأ إليها الأندية لجلب المزيد من الرياضيين، وحتى هذه الفرق تعيقها مثبطات رغم تألقها وطنيا. ولقد قال يوما مدرب محمد بوضياف لوهران عبد القادر كفيف عن فريقه وفي جملة واحدة: «إن نقص العناية بفريقنا كبحه عن الحلم دوليا».
وردية الدروب في اقتراح الحلول
إن اقتراح الحلول لجملة المشاكل التي تعترض سبيل رياضة الكرة الطائرة جلوسا للمعاقين في الجزائر، من شانه أن يُزهر دربها مستقبلا مادام حاضرها ينبئ بنظير ذلك، حسب براجة الحاج، الذي يُعد أحد الخبيرين باللعبة والأكثر التصاقا بممارسيها في مدينة وهران، ختم يقول عن مستقبل اللعبة في الجزائر: «رياضة الكرة الطائرة جلوسا ستذهب بعيدا في الجزائر، فالمرحلة الأولى كانت لتوسيع الممارسة، والثانية للمشاركة وكسب الخبرة، أما الثالثة الحالية فلجلب الألقاب، ولكن لن يتم ذلك إلا برصد الإمكانات اللازمة، وتوفير أساليب التطوير كالقاعات والمستلزمات الرياضية وتكثيف الدورات مع الرفع من عدد الفرق الممارسة بالتوازي مع الإكثار من عدد المدربين المختصين، فإذا تم ذلك فإن مستقبل هذه الرياضة سيكون ورديا في الجزائر بدون ريب».