التواجد العثماني بالبليدة

معالم أثرية تصارع الزمن ومفردات تركية متداولة

معالم أثرية تصارع الزمن ومفردات تركية متداولة
  • 1745
❊ق.ث ❊ق.ث

ما زالت مدينة البليدة، عاصمة المتيجة، تحتفظ بالعديد من آثار التواجد العثماني بالمنطقة، من خلال المعالم والشواهد التاريخية المشيّدة والعادات والتقاليد المرسخة، بالإضافة إلى أسماء العديد من الأحياء والمفردات التي لا تزال متداولة على ألسن أهلها، بما لا يدعو إلى الشك لتلك العلاقة الوطيدة التي جمعت بين أهلها والوافدين عليها.

تتجلى هذه الآثار في المباني المشيّدة في تلك الحقبة الزمنية، والتي لا زالت اليوم تقاوم من أجل بقائها أمام متغيرات الزمن، على غرار حي الدويرات أو ما يعرف بحي "أولاد السلطان"، وكذا "قصر عزيزة" الذي شيده الحاكم العثماني مصطفى باشا لابنته عزيزة وبلدية البليدة، والعديد من المساجد والأزقة التي تحمل تسميات شخصيات تركية.

تدهور كبير للدويرات

فحي "الدويرات" أو قصبة البليدة الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى القرون الوسطى (القرن الـ15 ميلادي) شيّده في ذلك الوقت الوافدون على المدينة، حيث يشبه في هندسته كثيرا قصبة الجزائر العاصمة، باستثناء بعض الخصوصيات في البناء، يقول المهتم بتاريخ المدينة وذاكرتها الحية يوسف أوراغي، فبنايات الدويرات مغطاة بالقرميد، في حين بنايات القصبة بالعاصمة تتميز بالسطوح، وأبواب بيوتها المقوسة وشكل غرفها المستطيلة التي يتراوح طولها بين الستة والعشرة أمتار وعرضها ثلاثة أمتار، أضف إلى ذلك، فناءاتها المعروفة محليا بوسط الدار المزينة بالنافورات وأشجار الليمون وأزهار الياسمين.

لكن لم تعد بنايات هذا الحي التي تميزت كذلك بالطابع العربي الإسلامي التي رسمها لها مؤسس مدينة البليدة العلامة سيد أحمد الكبير، بعد دخوله إلى المدينة في القرن 16 ميلادي بحكم منبعه الأندلسي على حالتها الأصلية،  حيث شهدت في السنوات الأخيرة تدهورا كبيرا بسبب العوامل الطبيعية التي كان لها تأثير أكبر في تصدع بناياتها، مما جعل السكان يرتجلون في ترميمها دون أدنى مراعاة لهندستها الأصلية ولا لمواد البناء المستخدمة، وهو ما يشد الزائر للحي الذي يلاحظ تشييد منازل فوضوية من الإسمنت والآجر وتشويه صارخ للمكان.

كما يلاحظ أن بعض السكان عمدوا أيضا إلى تغيير جماليات مداخل بناياتهم، مستغنين عما كان يمّيزها من أقواس وزخارف وأبواب خشبية، وآخرون قاموا برفع أسوار بناياتهم ووضع الشبابيك الحديدية لاعتبارات أمنية، فيما فضل آخرون هجر الحي كلية إلى مساكن عصرية خارجه.

ورغم كل الثراء الثقافي لـ«الدويرات" -التي تضم اليوم أكثر من 30 ألف نسمة وفقا لبعض سكانها- إلا أنها تخلو من أي مركز ثقافي أو جمعية للتراث، تعنى بحفظ ونقل ذاكرة المكان، بل وتغيب حتى اللافتات التي تعرف بالمكان ومعالمه للزائرين.

"قصر عزيزة" يصارع الإهمال

يعد "قصر عزيزة" من المعالم الأثرية ذات الأهمية التاريخية البالغة بالولاية، إذ يرجع تاريخ تشييده إلى فترة التواجد العثماني بالمنطقة، وتحديدا إلى بداية القرن الثامن عشر، يقول السيد أوراغي، حيث شيده آنذاك الحاكم العثماني مصطفى باشا لابنته عزيزة.

يشبه هذا الصرح المتواجد ببلدية بني تامو إلى حد كبير "قصر عزيزة" بالقصبة في العاصمة، حيث اعتمد في بنائه على أسلوب معماري مميز، وكان بمثابة منتجع سياحي لعائلة الداي وفضاء طبيعي رحب وسط بساتين البرتقال وأشجار النارنج، لما كان يتوفر عليه من وسائل الراحة من خدم وملاحق ملحقة بالقصر.

وبالرغم من أنه المعلم الوحيد والقديم الذي صمد بعد زلزال 1825 الذي ضرب الولاية وهدم كل ما عليها من بنايات، نظرا لاستخدام نظام مضاد للزلازل يشبه إلى حد بعيد ذلك المعمول به حاليا، إلا أنه يشهد اليوم العديد من التغيرات التي شوهت كثيرا معالم القصر الذي أضحت جدرانه متآكلة وأسقفه مهددة بالسقوط، بعدما استعمل في بداية الاحتلال الفرنسي كسجن مركزي، حيث استعين بمساجينه آنذاك في تشييد الطرق وأشغال الري والفلاحة وثكنة عسكرية مع اندلاع الثورة التحريرية الكبرى، فمقر لإقامة السفاح ليقارد إلى غاية 1962م.

لم يبق من القصر إلا الملامح، حيث يلاحظ الزائر لهذا القصر جليا كيف أن العائلات التي تقطنه حاليا تسببت في إحداث عدة تغييرات بمعالم القصر الذي يتربع على مساحة 560 م2، كإنجاز سور بوسط رواق الطابق الأول، مما شوه كليا صورة هذا المعلم، إلى جانب استحداث سلالم لم يكن لها أي وجود بباحة القصر وغلق أبواب مقوسة أخرى لفصل عائلة عن أخرى، تضيف أحدى المقيمات.

كما تعرف بوابته العملاقة بارتفاع 3.25م وعرض 2.90م المصنوعة من خشب الأرز، تآكلا في وضعيتها، شأنها شأن النوافذ والأسوار الحجرية العريضة والدعامات الكبيرة التي تحمل البناية.

أوضح القائمون على مديرية الثقافة أن عملية انطلاق أشغال ترميم هذه المنشأة التي استكملت الدراسة الخاصة بها، بعد رصد غلاف مالي بقيمة 10 ملايين دج من طرف الوزارة الوصية، مرهون حاليا بترحيل العائلات المحتلة للقصر، وهي العملية التي ستسمح ـ حسبهم ـ من استرجاعه وتسجيله ضمن قائمة التراث المحلي للولاية. كما تسعى مديرية الثقافة من خلال هذه الخطوة، إلى اقتراح هذا المعلم للتصنيف وجعله متحفا ثقافيا يحفظ تاريخ وتراث مدينة البليدة.

معالم تظل شامخة

تعد بناية مقر بلدية البليدة،التي كانت خلال التواجد العثماني بالمدينة دارا  تابعة لإبراهيم أغا، معلما أثريا هاما ما يزال شامخا ومستغلا من طرف السلطات المحلية التي تتخذ منه مقرا لمصالحها، رغم إنجاز مقر جديد يضم مختلف المصالح المدنية التابعة للبلدية.

يحظى هذا المعلم الأثري باهتمام كبير لزوار المدينة من داخلها وخارجها، نظرا لطبيعته الهندسية المتميزة التي يغلب عليها جليا الطابع العثماني، من خلال الأقواس والأبواب الخشبية وفناء الدار الذي تتوسطه نافورة والنباتات المزينة له في كل جوانبه، رغم التغيرات التي أقامها المحتل الفرنسي عليها، جعل منها مقرا للبلدية سنة 1848، بعد تهيئها على شكل مكاتب وورشات للنجارة وأخرى للفروسية، زد على ذلك عمليات الترميم "الارتجالية" التي تشهدها البناية في كل مرة، والتي أساءت إلى المعلم كثيرا، على غرار العملية الأخيرة التي قام بها رئيس المجلس الشعبي السابق، والذي استغنى عن الأبواب الخشبية للدار، مستبدلا إياها بأبواب من الألمنيوم، والألواح الرخامية الموضوعة أمام النوافذ وغيرها -يقول عمي يوسف متحسرا-، شأنها شأن "زنقة الباي" أو شارع الباي الذي كان يضم مختلف المكاتب الإدارية التابعة للباي، والذي بقي منه الاسم فقط، بعدما تم تدمير دار الباي الأثرية من طرف أحد الخواص وتشييد على أنقاضها بناية عصرية.

على النقيض من ذلك، ما يزال مسجدي ابن سعدون (لصاحبه بن سعدون ابن محمد بن بابا علي المشيد في أواخر القرن السادس عشر) ومسجد الحنفي التركي الأثري الذي يحمل اسم الإمام المرحوم مصطفى اسطنبولي الذي بني سنة 1750 من طرف العثمانيين، لأداء الصلاة وفق المذهب الحنفي، ليتحول حاليا إلى المذهب المالكي، شامخين رغم مؤثرات الزمن، لاسيما منها زلزال 1825 الذي هدم جزءا كبيرا من بناياتها.

يحظى هاذان المعلمين اليوم، إقبالا كبيرا من طرف المصلين، كما لا يزالان يؤديان علاوة على وظيفتهما الدينية، دورا هاما على الصعيد الاجتماعي من خلال رص الصفوف وجمع الشمل وزرع المحبة وروح التآزر بين المواطنين، غير أن عمليات الترميم والتصليح التي لم تتم وفق ما ينبغي، حفاظا على طابعهما الأصلي، مثلما أشارت إليه حينها الوكالة الوطنية للآثار وحماية المعالم والنصب التاريخية، وقد غيرّت من ملاحمها كثيرا.

 

ق.ث