بعد تعليق واشنطن التزامها بمعاهدة منع الانتشار النّووي
موسكو ترد بالمثل
- 877
لم تنتظر روسيا سوى ساعات للرد بالمثل على قرار الولايات المتحدة، الانسحاب من معاهدة منع الانتشار النّووي، وقررت هي الأخرى إغلاق بابها رغم أنها معاهدة لجمت لعدة سنوات سباق تسلّح نووي محموم بين الولايات المتحدة ودولة الاتحاد السوفياتي المنهارة خلال عقود الحرب الباردة.
وإذا كانت الاتفاقية الموقّعة سنة 1987، حصرت حينها منع الانتشار النّووي على الصواريخ الباليستية التي يتراوح مداها بين 500 و5500 كلم، إلا أنها شكلت قفزة نوعية بين قطبي المعسكرين الرأسمالي والشيوعي لوقف سباقهما لامتلاك مختلف الأسلحة الفتّاكة، ضمن خطوة جعلت العالم يتنفس الصعداء بعد عقود من توتر كان ينذر بحرب كونية برائحة نووية.
فهل بعد هذا الانسحاب المتبادل يمكن القول إن العالم قد عاد إلى نقطة الصفر، وأن الباب أصبح مفتوحا أمام سباق آخر أكثر ضراوة وأكثر خطورة من السنوات الساخنة التي ميّزت الحرب الباردة؟
سؤال فرض نفسه أمس، بعد قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في وقت كان فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ربما ينتظر من السلطات الروسية الامتثال لشروطها للبقاء في هذه المعاهدة بضرورة التزام موسكو بتدمير كل ترسانتها من هذه الصواريخ الفتّاكة، بمبرر خرقها لبنودها أو ستشرع بلاده بشكل رسمي من الآن وعلى مدى الستة أشهر القادمة في إتمام إجراءات الخروج من المعاهدة.
ولكن قرار الرئيس الروسي، جاء نقيض هذه التوقعات بعد أن فضّل التعامل بنفس الندية مع نظيره الأمريكي، واختار هو الآخر الخروج من المعاهدة، وقال بوتين، في تصريح أمس، إنه مادام الأمريكيون قرروا تعليق مشاركتهم في معاهدة منع الانتشار النّووي فإننا نعلق من جانبنا مشاركتنا فيها. وزاد على ذلك أن بلاده لن تطلب من الآن فصاعدا من الولايات المتحدة الدخول في مفاوضات جديدة لبحث مسائل نزع الأسلحة الإستراتجية بين بلديهما وإبرام اتفاقيات بشأنها.
وأضاف بعد اجتماع مع وزير الخارجية سيرغي لافروف، ووزير الدفاع سيرغي شويغو «أملنا أن يتحلى شركاؤنا الأمريكيون بنضج أكبر حتى ندخل في حوار الند للند لبحث هذا الموضوع الهام».
وهي إشارة تحمل الكثير من الدلالات السياسية من أهمها أن روسيا لم تعد تخشى التفوق النّووي الامريكي، وأنها قادرة على مقارعة كل سباق جديد في هذا المجال، ولكن الأخطر من ذلك أن الباب أصبح مفتوحا أمام البلدين للدخول في سباق جديد للتسلّح النّووي ضمن معادلة مفتوحة أمام كل القوى النّووية للدخول في هذا المعترك، الذي سيجعل كوكب الأرض رهينة نزوات قوى سياسية احتكمت إلى أسلحة الدمار الشامل لتأكيد تفوقها.
ولكن هل كان الرئيس الأمريكي، لم يكن ينتظر أن ترد روسيا بمثل هذه الطريقة مما جعله يتسرع في اتخاذ قرار الانسحاب من معاهدة لم تعد تهم بلاده وروسيا أو الصين والقوى النّووية الأخرى، بقدر ما تهم أيضا دول العالم كلها دون استثناء مادام الخطر الذي يتهدد الكون لن يستثني أحدا في حالة وقوع أية مغامرة غير مسحوبة العواقب ويكون السلاح النّووي أداة تنفيذها؟
وأعطت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، التي أدلى بها قبل إعلان موسكو عن موقفها، أن بلاده كانت تنتظر رضوخ هذه الأخيرة لشروطها، وقال إن الولايات المتحدة مستعدة للدخول في مفاوضات مع روسيا بخصوص مسألة نزع السلاح النّووي شريطة تأكد بلاده من ذلك ضمن مقاربة خابت الإدارة الأمريكية في تحقيقها بعد اللهجة التي استعملها الرئيس بوتين، ورفضه تقديم أية تنازلات بخصوص قضية يعتبرها جوهرية بالنسبة لموقف بلاده في الساحة الدولية.
والواقع أن مؤشرات هذه القطيعة كانت قائمة منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض قبل عامين، وراح يتهم في كل مرة روسيا بانتهاك المعاهدات الموقّعة مع بلاده مع توجيه رسائل مشفرة بامكانية الانسحاب منها.
ويبدو أن الرئيس الأمريكي تناسى الصين التي تحولت إلى ثالث قوة نووية في العالم، بما يجعل منها طرفا في هذه المعادلة بدليل أنها سارعت أمس، إلى مطالبة الولايات المتحدة بالتراجع عن قرارها لشعورها المسبق بأنها معنية بما يجري بين واشنطن وموسكو وبمستقبل السباق النّووي.
وهي حقيقة قائمة جعلت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يطالب في العديد من المرات بضرورة إعادة فتح هذه المعاهدة لإجراء مفاوضات جديدة بشأنها ولكن مع ضم الصين إليها بحكم إنتاجها لصواريخ باليستية معنية ببنود المنع التي تضمنتها المعاهدة محل الخلاف لتفادي تصعيد دولي قادم في مجال التسلّح النّووي وعواقبه الكارثية.
ويتذكر كل العالم قصة صواريخ «أس. أس. 20» السوفياتية التي جعلت كل البلدان الأوروبية تحت رحمة الضربة الاستباقية الأولى قبل أن يعلن الرئيس الامريكي الراحل رونالد ريغن، نقل المواجهة إلى الفضاء بإعلان ما اصطلح عليه في حينه بـ «حرب النجوم» التي حتمت على النظام السوفياتي المنهار القبول بالأمر الواقع الغربي وانتهى به الأمر إلى التفكك النهائي.
ولكن روسيا التي امتصت قوة الصدمة التي خلّفها ذلك الانهيار عرفت كيف تنهض من كبوتها، وعادت لتفرض نفسها من جديد في معادلة النسق الدولي كقوة فاعلة لا يمكن القفز عليها في أية ترتيبات أمنية عالمية قادمة.
وتتمسك السلطات الروسية بهذا الموقف رغم أنها تدرك أن جرها إلى سباق تسلّح جديد خطة مقصودة لإدخالها في متاهة ستكلفها أموالا طائلة حتى تتمكن من مقارعة كل تقدم تكنولوجي أمريكي، في تكرار لنفس الخطة التي انتهجها الرئيس ريغان، ثمانينيات القرن الماضي.
ولكن هل يخلط الرئيس بوتين حسابات ترامب في ظل التحولات الاقتصادية التي عرفتها روسيا، أم أنه سيجد نفسه في الخانة التي وجد الرئيس السوفياتي الأسبق ميخائيل غورباتشيف، نفسه فيها ضمن احتمال ستخسر فيه روسيا كل رهاناتها كقوة فاعلة في العالم.