مساهمة / سفير الصين بالجزائر لي ليان هي يتحدث عن العلاقات النموذجية بين البلدين:
سنجعل تعاوننا أعمق من المحيط الهادئ وأعلى من الهيمالايا
- 1439
كثيرا ما يعتقد أصدقاؤنا الجزائريون أن بطاقية الصين تنحصر في إنجازات المسجد الأعظم، الطريق السريع شرق-غرب، المركز الدولي للمؤتمرات عبد اللطيف رحال، مطار الجزائر الجديد ودار الأوبرا، فضلا عن المشاريع التي أنجزتها الشركات الصينية والمساهمة النشيطة لحوالي 30 ألف عامل صيني في البناء الاقتصادي والاجتماعي للجزائر.
وإذا كانوا غالبا ما يرددون على مسامعنا بأن الجزائر العاصمة لا تمثل الجزائر كلها، فأقول لهم أيضا إن الإنجازات الصينية في الجزائر لا تعكس الصين بأكملها، لأن الصين بلد عظيم ذو حضارة عريقة تمتد جذورها إلى 5 آلاف عام، كما يتربع على مساحة شاسعة تصل إلى 9,6 مليون كلم مربع بتعداد سكاني يقدر بـ 1.3 مليار نسمة.
يصادف الفاتح من أكتوبر الاحتفال بالذكرى 70 لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. وبصفتي سفير الصين في الجزائر، أود أن أقدم لكم بهذه المناسبة صورة عن بلادي وفق نظرة عميقة متعددة الأبعاد، مع التعريج على سيرورة الصداقة الصينية - الجزائرية التي تزداد وثوقا وازدهارا يوما بعد يوم.
قبل 70 عاما، تم الإعلان الرسمي عن جمهورية الصين الشعبية، وبذلك تكون الأمة الصينية قد أنهت تاريخها المشين لأكثر من قرن من الزمن، محققة بذلك استقلالها وحريتها الكاملين قبل أن تتخذ لنفسها موقفا جديدا في الجهة الشرقية من المعمورة بما يتلاءم وخصوصيتها. وبعد هذا التاريخ بدأ الشعب الصيني مسيرة البناء الطويلة، حيث تعد سنوات الـ 70 الماضية الأكثر ازدهارا في تاريخ الحضارة الصينية.
فقد حققت الأمة الصينية قفزة تاريخية باعتلائها القمة لتصبح بالتالي دولة غنية وقوية تسير بثبات على نهج القوة الاقتصادية والعلوم والتكنولوجيا والازدهار والثروة والدبلوماسية، من خلال تقديم مساهمات كبيرة للعالم.
وعلى مدار السبعين عاما الماضية، أضحت الصين ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، وحققت معجزات في التنمية الاقتصادية العالمية. ونذكر على سبيل المثال ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي للصين عام 2018 من 30 مليار دولار أمريكي في بداية تأسيس الجمهورية إلى 13.7 تريليون دولار أمريكي ليتضاعف بذلك لأكثر من 450 مرة. وهو ما يمثل حوالي 16 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، مما مكنها من احتلال المرتبة الثانية عالميا، باحتياطات صرف تتجاوز 3 تريليونات دولار.
وعليه احتلت الصين الصف الثاني عالميا لمدة 13 عاما بصفة متتالية بأكثر من 200 صنف من المنتجات الصناعية الرائدة في العالم، مما جعلها أكبر دولة صناعية في العالم بـ 4.6 تريليون دولار. كما احتلت الصين خلال العامين الماضيين المرتبة الأولى عالميا في مجال استقطاب الاستثمارات الأجنبية الفعالة المباشرة بـ 135 مليار دولار أمريكي، فضلا عن تصنيفها كثاني أكبر المستثمرين في العالم من حيث تدفقات رأس المال الأجنبي، فمنذ انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، ساهمت الصين لفترة طويلة بأكثر من 30٪ في النمو الاقتصادي العالمي وأصبحت عامل استقرار رئيسي ومصدرا للطاقة و للاقتصاد العالمي.
الصين أضحت قوة علمية وتكنولوجية عالمية
أضحت صين اليوم قوة علمية وتكنولوجية عالمية، فعلى مدار السبعين عاما الماضية، لم تدخر جهدا في تحسين قدراتها في مجال الابتكار التكنولوجي وتطوير مواهبها في قطاع البحث والتنمية، سواء كان ذلك على المستوى الوطني أو الدولي. ففي السنوات الأخيرة احتل التعليم العالي الصيني وعدد خريجي الجامعات الصينية المرتبة الأولى في العالم، كما يحتل حجم مخصصات استثمارات البحث والتنمية المرتبة الثانية عالميا. أما العدد الإجمالي لموظفي البحث والتنمية وكذا طلبات براءات الاختراع، فيحتلان كلا منهما المرتبة الأولى عالميا.
لقد حققت الصين نجاحات كبيرة في مجالات مختلفة مثل الرحلات الاستكشافية في الفضاء والعلوم واستكشاف المياه العميقة والحوسبة الفائقة والملاحة عبر الأقمار الصناعية، علاوة على تحقيق العديد من النجاحات في المجالات الأخرى التي تشهد تطورا كبيرا على غرار تقنيات المعلومات الحديثة، البيانات الضخمة والحوسبة والذكاء الاصطناعي.
الصين اليوم قوة عالمية مزدهرة وغنية، فطوال هذه السنوات السبعين، ما زالت الحكومة الصينية تولي أهمية كبيرة لرفاهية السكان، كما أن المستوى المعيشي للشعب الصيني في تحسن مستمر. فالصين أنشأت أكبر مجموعة متوسطة الدخل في العالم تضم 400 مليون شخص، كما نجحت في انتشال أكثر من 70 مليون شخص من الفقر، محققة بذلك المعجزة الأكثر روعة في العالم في هذا المجال، بل ساهمت في ذلك عالميا بأكثر من 70 بالمائة.
وفي عام 2018، عملت الصين أيضا على توفير 94.2 ٪ من التعليم الإجباري الممتد لفترة 9 سنوات لأطفالها، فضلا عن استفادة أكثر من 1.3 مليار شخص من التأمين الصحي. وفي عام 2018، قدر معدل العمر المتوقع للمواطن الصيني بـ 77 عاما، بينما كان 35 سنة عام 1949.
وتعد الصين اليوم أيضا قوة دبلوماسية عالمية، فمنذ السبعين عاما الماضية، ارتكزت دبلوماسيتها على الاستقلال والسلام واستراتيجية الانفتاح والتعاون القائم على المنفعة المتبادلة، كما تبقى طرفا فعالا في الحفاظ على السلام وتعزيز التنمية والاستقرار على المستوى العالمي، بالموازاة مع احترام مختلف الحضارات والعيش معا في سلام، والدعوة إلى التعاون في إطار مبدأ رابح ـ رابح.
فعلى مدار السبعين عاما الماضية، ارتفع عدد الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع الصين من 18 إلى 180 دولة، كما أقامت 110 شراكات بصيغ مختلفة، مما جعل الصين تمتلك شبكة عالمية واسعة من الشركاء. وأطلقت الصين المبادئ الخمسة للتعايش السلمي. وسبقت دول أخرى في الترويج لمسألة مهمة وهي أن «السلام والتنمية هما موضوع عصرنا»، مؤكدة على حتمية بناء عالم متناغم، لما له من تأثير مهم على العلاقات الدولية المعاصرة.
في عام 2013، أطلق الرئيس شي جين بينغ مبادرة «الحزام وطريق الحرير» ومفهوم بناء مصير المجتمعات الإنسانية. ولقيت مبادرة «الحزام وطريق الحرير» ردود فعل إيجابية من أكثر من 160 دولة ومنظمة دولية بما في ذلك الجزائر، لما تتضمنه من مبادئ تخدم المصلحة العامة وهو جعل هذه المبادرة من أكثر المبادرات الشعبية المقدمة من الصين إلى العالم. كما أصبح الحل الصيني المرتكز على مفهوم بناء المصير المشترك للبشرية يحظى بالإجماع، بل إننا نجده مدونا في الوثائق الرسمية للمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجموعة العشرين، لما له من مزايا في تعزيز السلام وتطور الإنسانية.
بين الشعبين الصيني والجزائري تفاهم ودعم متبدل طيلة 70 سنة
يصادف هذا العام الذكرى السنوية السبعين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، ليس هذا فحسب، بل يصادف أيضا الذكرى 61 لتأسيس العلاقات الدبلوماسية الصينية ـ الجزائرية. فمنذ 61 عاما، اتسمت علاقات البلدين بالأخوة والطيبة، فضلا عن الصداقة الحميمة والشراكة الجيدة. وطوال 70 عاما، أبدى الشعبان الصيني والجزائري دائما تفاهما ودعما متبادلا، كما سارا جنبا إلى جنب في كل القضايا.
تجدر الإشارة إلى أن العلاقة الودية بين الصين والجزائر تمتد إلى تاريخ طويل، أي منذ عهد المرابطين في المغرب الكبير. وبالضبط في عهد أسرة سونغ التي كانت تحكم شمال الصين. وكانت الصين بالفعل تربطها علاقات اقتصادية وتجارية وثيقة مع المنطقة المغاربية، مثلما ورد في الكتاب الصيني «لينغواي دايدا Lingwai daida» أي (الإجابة على المناطق الواقعة خارج الجبال) المنشور عام 1178، حيث تضمن الكتاب وصفا لعادات سلالة المرابطين، فضلا عن استعراض المنتجات الوفيرة لهذه المنطقة بالتفصيل مثل القمح، البطيخ، الأغنام إلخ.
وفي خمسينيات القرن الماضي، دعمت الصين الجديدة التي كانت حديثة الاستقلال بقوة قضية استقلال الجزائر وقدمت مساعدة كبيرة للشعب الجزائري. وفي عام 1958 أصبحت الصين أول دولة غير عربية تعترف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وتقيم علاقة دبلوماسية مع هذه الحكومة.
وفي عام 1971، استعادت جمهورية الصين الشعبية مقعدها الشرعي في الأمم المتحدة في الدورة السادسة والعشرين للجمعية العامة باعتماد القرار رقم 2758، حيث قدمت الجزائر في هذا الصدد مساهمة مهمة لن ينساها الصينيون أبدا. وفي عام 2014، أسست الصين والجزائر شراكتهما الإستراتيجية الشاملة، والتي تعد الأولى من نوعها مع دولة عربية، فاسحة بذلك المجال لمرحلة جديدة من التنمية. أما عام 2018، فقد وقعت الصين والجزائر على مذكرة تفاهم بشأن بناء «الحزام وطريق الحرير»، والتي ستفتح آفاقا أوسع للتعاون بين البلدين.
التعاون البراغماتي بين البلدين يشهد تطورا قويا
أنا سعيد جدا لأني لمست منذ بداية هذا العام صلابة العلاقات الصينية ـ الجزائرية المرتكزة على الشراكة والجهود المشتركة، والتي تندرج في إطار التطور الثابت المتسم بالكثير من الديناميكية، فالثقة السياسية المتبادلة أصبحت أكثر عمقا، كما واصل البلدان بقوة في دعم المسائل المتعلقة بالمصالح الحيوية ذات الاهتمام المشترك، مما سمح بتنسيق مجالات التعاون على الساحة الدولية والدفاع عن المصالح المشتركة لكافة الدول النامية. كما نجح البلدان في إقامة تبادلات على مختلف المستويات بتعزيز التنمية في إطار الشراكة الإستراتيجية الصينية ـ الجزائرية.
وما زال التعاون البراغماتي بين البلدين يشهد تطورا قويا، حيث تواصل الشركات الصينية في المساهمة بنشاط في البناء الاقتصادي والاجتماعي للجزائر، على غرار مشاريع البنى التحتية كالمسجد الأعظم ومطار الجزائر الجديد الذي دخل حيز الخدمة، إضافة إلى ذلك، فإن التعاون الاقتصادي والتجاري الصيني ـ الجزائري يشهد تطورا في مجالات التكنولوجيا الفائقة مثل المعلومات والاتصالات وكذا صناعة السيارات، مما يوفر المزيد من الفرص لكلا الشعبين.
تجدر الإشارة إلى أن التجارة الصينية - الجزائرية حققت تطورا ملحوظا على الرغم من المناخ الاقتصادي العالمي الصعب. فحسب إحصائيات الجمارك الجزائرية، بلغ حجم الاستيراد والتصدير بين البلدين في النصف الأول من العام الجاري 5.29 مليار دولار، في حين ارتفع حجم البضائع الجزائرية المستوردة من قبل الصين بنسبة 36.42٪ مقارنة بنفس الفترة من عام 2018. وبذلك أصبحت الصين الشريك التجاري الرئيسي للجزائر. وحسب إحصائيات الجمارك الصينية، فقد زاد حجم البضائع الجزائرية التي استوردتها الصين من الجزائر خلال الأشهر الستة الأولى من هذا العام بنسبة 61.54٪ مقارنة بنفس الفترة من عام 2018.
كما شهدت التبادلات الإنسانية والثقافية تطورا متصاعدا، إذ يعد التعاون في مجال الصحة جزءا مهما في التعاون الودي الصيني ـ الجزائري. ويعد الفريق الطبي الصيني في الجزائر الأول من نوعه الذي ترسله الحكومة الصينية إلى دولة أجنبية. وخلال الـ 56 عاما الماضية، أرسلت الصين 3400 طبيب لمساعدة المرضى والجرحى في الجزائر. كما جددت الحكومتان في ماي الماضي فعالية البروتوكول الخاص بإرسال فريق طبي من قبل الحكومة الصينية إلى الجزائر. ليصبح اليوم الفريق السادس والعشرين والمكون من 81 طبيبا صينيا يشتغلون في 8 ولايات، حيث تنصب مهمتهم في تحسين صحة السكان.
التعاون في قطاع التربية شهد بدوره تعاونا قويا، حيث يواصل المئات من الطلاب الجزائريين دراستهم في الصين، كما يأتي العشرات من الطلاب الصينيين للدراسة في الجزائر. في حين يعرف التعاون في مجال التكوين المهني والتكوين على المدى القصير تطورا متصاعدا. أما بخصوص اتفاقية إعفاء التأشيرة لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية بين البلدين، فقد دخلت حيز التنفيذ في مارس الماضي. وكل ذلك ساهم في كتابة فصل جديد من الصداقة بين الشعبين.
إن الصداقة العميقة التي تمتد على مدار 61 عاما بين بلدينا كانت دافعا لإقامة الشراكة الإستراتيجية الشاملة، وبصفتي سفيرا للصين في الجزائر حيث توليت هذا المنصب في نهاية ديسمبر الماضي، فإنني استطيع أن أسجل خلال هذه الفترة التاريخ الطويل والصداقة العميقة والتعاون الواسع الذي يربط بين بلدينا. كما لاحظت الديناميكية ووفرة الإنجازات المحققة في إطار العلاقات الثنائية. كما اكتشفت مختلف الإمكانيات الكبيرة التي تعد أسس تطور العلاقات الصينية ـ الجزائرية. نحن اليوم في نقطة انطلاق جديدة
وستستمر الصين في البقاء إلى جانب الجزائر. وننوي تعزيز التشاور والتعاون بين بلدينا في إطار إستراتيجية التنمية. كما تتطلع الصين لتعزيز بناء «الحزام وطريق الحرير» مع الجزائر، لتوسيع وتعميق التعاون الودي المتبادل المنفعة في جميع المجالات من أجل رفاه شعبينا.
إن الصين ترغب في اتخاذ خطوة جديدة في الشراكة الإستراتيجية الثنائية. وأنا مقتنع تماما بأن هذه الشراكة الإستراتيجية الشاملة ستجمع، من خلال الجهود الدؤوبة التي تبذلها حكومتانا وشعبانا، كل الظروف المناسبة لجعل التعاون الصيني - الجزائري أعمق من المحيط الهادئ، أعلى من جبال الهيمالايا وأطول من نهر النيل.