سنة كاملة لحراك رسم معالم جزائر جديدة وحارب الفساد
- 636
تمر، اليوم، سنة كاملة على الحراك الشعبي الذي فاجأ وأبهر الجميع، حراك كان له الفضل في رسم معالم الجزائر الجديدة بعد قطع الطريق أمام استمرار النظام السابق بفضل وعيه وتشبّعه بقيم الوطنية، حراك أربك محيط الرئيس السابق، وأطاح به، وزجّ برموز الفساد في السجون، حراك لايزال عازما على مواصلة نضاله ومسيرته كل جمعة وثلاثاء إلى غاية تجسيد كل مطالبه التي لم تتحقق بعد؛ من أجل بناء دولة الحق والقانون، قوامها العدالة والمساواة والديمقراطية والحريات.
لم يكن أحد يتوقع بعد النداء الذي أطلقته مجموعة من الشباب على مواقع التوصل الاجتماعي، أن يكون يوم 22 فيفري 2019، يوما استثنائيا سُجل في صفحات تاريخ الجزائر؛ حيث خرج ملايين الجزائريين، أغلبهم شباب في الجمعة الأولى بالعاصمة؛ في مسيرة سلمية أبهرت العالم وأربكت النظام القائم، وأظهرت وعي الشباب الذين طالبوا بصوت واحد، الرئيس السابق بعدم الترشح لعهدة رئاسية خامسة. حراك قلب موازين القوى، وأطاح برئيس تربّع على كرسي الرئاسية عشرين سنة، شعر فيها الشباب بالتهميش واليأس.
حراك تواصل جمعات متتالية، وانتشر في كل ربوع الوطن، وانضمت إليه كل فئات المجتمع. حراك طالب برحيل كل رموز النظام المحسوبين على الرئيس السابق، ومحاسبة المتورطين في الفساد. حراك أسس لجمهورية جديدة بعد أن أسقط انتخابات 18 أفريل، التي كانت ستُحسم لعهدة خامسة للرئيس السابق علانية، وعهدة رئاسية ثانية لشقيقه الأصغر خفية، الذي كان يتولى تسيير أمور الدولة بطريقة غير دستورية منذ مرض أخيه.
كانت أمس الجمعة 53 من عمر الحراك الشعبي؛ ما يعادل سنة كاملة، انتفض فيها الشعب الجزائري ضد احتكار السلطة والاستيلاء على الحكم لمدة عشرين سنة، وضد الفساد بعد أن تمسكت المجموعة الحاكمة بالحكم لسنوات، وأسست لطبقة أوليغارشية من رجال الأعمال، الذين أصبحوا يتحكمون في السياسة وفي تعيين المسؤولين لخدمة مصالحهم الشخصية.
مسيرة شبانية أربكت النظام السابق وجعلته يراوغ للبقاء
حراكٌ بدأت شرارته الأولى من مدينة خراطة؛ في مسيرة عفوية، ثم برج بوعريريج أياما قليلة قبل 22 فيفري بعد إعلان الرئيس السابق نيته الترشح لعهدة رئاسية خامسة رغم مرضه وعجزه الذي جعله يغيب عن الساحة منذ 2011، ليكبر هذا الحراك بفضل مواقع التواصل الاجتماعي بعد المبادرة التي أطلقتها مجموعة من الشباب، دعت من خلالها إلى الخروج في مسيرة بالعاصمة للتعبير عن رفض العهدة الخامسة.
كانت مسيرة سلمية وحضارية، رفعت مطالب سياسية أربكت النظام القائم، الذي لم يكن يتوقعها، ولم يعرف كيف يتعامل معها، فلجأ إلى التعتيم ومحاولة حجب الحقيقة في اليوم الأول، والاكتفاء بالقول إن الشباب خرجوا للمطالبة بإصلاحات مختلفة، غير أن مواقع التواصل الاجتماعي أو ما بات يُعرف بالإعلام البديل، كشفت الأمور، وعلم الجميع في كل ربوع الوطن وخارجه، بأن الحراك خرج للتعبير عن رفضه العهدة الخامسة. غير أنه رغم هذه المسيرة الحاشدة التي توبعت بعد ثلاثة أيام بمسيرة للطلبة ثم للمحامين ثم للصحفيين وبعدهم الأطباء وغيرهم من شرائح المجتمع، إلا أن السلطة لم تستجب لطلبات الشعب، وأودع ملف ترشح الرئيس السابق أمام المجلس الدستوري بالرغم من مرضه، حيث قام بإيداعه نيابة عنه، مدير حملته عبد الغني زعلان.
وتواصل الحراك، الذي بات يتسع يوما بعد يوم، وانضمت إليه كل الفئات، لتصدر الرئاسة بيانا، أعلنت خلاله عن اتخاذ قرار التخلي عن هذه الانتخابات، وتمديد عهدة الرئيس لمدة سنة إضافية، يتم بعدها تنظيم انتخابات لن يترشح لها، مع القيام بإصلاحات خلال هذه المدة. غير أن الشعب رفض أي تمديد وأي تأجيل، وتمسّك بمطلب الرحيل في الجمعات الموالية داخل الوطن وخارجه من طرف الجالية الجزائرية، التي خرجت هي الأخرى في عدة عواصم من العالم.
وأمام هذا الوضع وبعد الدعوات التي وجهها الحراك للمؤسسة العسكرية؛ باعتبارها حامي الدستور، للتدخل، وقف الجيش الوطني الشعبي بقيادة قائد الأركان السابق الفقيد الفريق قايد صالح، إلى جانب الشعب، ورافقه، وطالب بتطبيق المادة 102 من الدستور، كما طالب الرئيس السابق بتقديم استقالته نزولا عند رغبة الشعب، وتم تعيين رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح رئيسا للدولة، كما تنص عليه هذه المادة من الدستور؛ من أجل تنظيم انتخابات رئاسية، تفرز رئيسا جديدا في مدة 90 يوما.
لكن رغم الاستقالة فإن محيط الرئيس السابق لم يهضم الأمر، ولم يُرد التخلي عن سلطة احتكرها لعقدين من الزمن، نسج فيها شبكة عنكبوتية صلبة، فراح يخطط بكل الطرق للبقاء؛ حفاظا على مصالحه الشخصية الضيقة، غير مبال بالمصلحة العليا للبلاد، خاصة بعد تعهّد قيادة الأركان بتحرير العدالة وحمايتها، لتمكينها من فتح ملفات الفساد، وبداية توقيف بعض رجال الأعمال المقربين من محيط الرئيس السابق وإيداعهم السجن؛ الأمر الذي زاد من خوف هذا المحيط، الذي خطط للتآمر على المؤسسة العسكرية بعد وقوفها إلى جانب الشعب ومرافقتها الحراك وتعهدها بعدم إراقة دماء الجزائريين.
لكن المؤسسة العسكرية تمكنت من إسقاط هذا المخطط، وكشفت عن مؤامرة كان يقودها سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس السابق بالتعاون مع رئيسي المخابرات السابقين الجنرالين المتقاعدين بشير طرطاق ومحمد مدين المدعو ”توفيق”، الذين تم إيداعهم سجن البليدة بتهمة التآمر ضد سلطة الدولة وسلطة الجيش، وتمت محاكمتهم، وصدرت في حقهم أحكام بـ 15 سنة سجنا نافذا.
تعنُّت محيط الرئيس رفع سقف مطالب الحراك
ورغم أن الحراك في جمعته الأولى خرج للمطالبة بعدم تمرير العهدة الخامسة، فإن إصرار محيط الرئيس على البقاء في الحكم أدى إلى ارتفاع سقف مطالبه، التي لم تكتف برفض العهدة الخامسة، بل طالبت بمحاسبة كل رموز الفساد. وبفضل هذا الحراك تحركت الجهات الأمنية، وباشرت التحقيقات بشأن هؤلاء المسؤولين، وتحررت العدالة، وأمرت بإيداع عدة وزراء وولاة ومسؤولين الحبس المؤقت، وانطلقت محاكمات البعض منهم بعد سنوات طويلة من سياسة اللاعقاب، التي أسست لإمبراطورية الفساد، وشجعت على اختلاس الأموال العمومية.
وبعد استقالة الرئيس السابق ظهرت بعض مبادرات الحوار للخروج بخريطة طريق توافقية، تُوجت بتنظيم انتخابات رئاسية، حيث تم تنظيم ندوة عين بنيان للحوار، التي قادها الوزير والدبلوماسي الأسبق عبد العزيز رحابي. غير أن هذه المبادرة فشلت برفض من عدة جهات سياسية ومن الحراك، بسبب عدم رحيل كل رموز النظام آنذاك، أو ما كان يُعرف بـ ”الباءات الثلاثة”؛ حيث رفض الحراك المشاركة في أي مبادرة إلى غاية رحيلهم.
وفي هذا السياق، دعا رئيس الدولة عبد القادر بن صالح إلى تنظيم الانتخابات الرئاسية في 4 جولية 2019، غير أن هذه الانتخابات فشلت ولم يتم تنظيمها. وقام المجلس الدستوري بإلغائها لعدم تلقي أي ملف ترشح، بسبب غياب الشروط الملائمة التي طالب بها الحراك والطبقة السياسية، والمتمثلة أساسا في تشكيل سلطة مستقلة لتنظيم الانتخابات، ليقوم المجلس الدستوري بعدها بإصدار ”فتوى سياسية” بعد انقضاء هذه الآجال ومرور 90 يوما على تعيين بن صالح رئيسا للدولة، بتمديد عهدته إلى 90 يوما إضافيا، والتمكن من تنظيم انتخابات، وضمان استمرارية مؤسسات الدولة.
واقترحت بعد ذلك شخصيات من المجتمع المدني، مبادرة بتنظيم حوار بإشراك كل الفعاليات، لإيجاد مخرج للأزمة؛ باقتراح أسماء من شخصيات سياسية مختصين في القانون وممثلي جمعيات حملت تسمية ”هيئة الحوار والوساطة” برئاسة الوزير ورئيس المجلس الشعبي الوطني الأسبق كريم يونس، الذي عُين مؤخرا وسيطا للجمهورية، وهي الهيئة التي التقت عدة شخصيات سياسية ووطنية، ورفعت اقتراحاتها إلى رئيس الدولة، والمتمثلة أساسا في مراجعة قانون الانتخابات، وإنشاء لجنة وطنية مستقلة لتنظيم الانتخابات بعيدا عن الإدارة.
وبعد إتمام اللجنة عملها دعا رئيس الدولة الهيئة الناخبة إلى تنظيم الرئاسيات في 12 ديسمبر، والإسراع في تنصيب السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، وتزكية محمد شرفي رئيسا لها من طرف أعضائها، ومراجعة قانون الانتخابات.
وتلقت هذه اللجنة بعد فتح باب الترشيحات، عدة ملفات لشخصيات راغبة في الترشح، قبلت منها خمسة لاستيفائهم الشروط القانونية، وهم عبد المجيد تبون وعلي بن فليس وعز الدين ميهوبي وعبد العزيز بلعيد وعبد القادر بن قرينة، غير أن الحراك الشعبي بقي متواصلا، ورفضت عدة شخصيات منه المشاركة في هذه الانتخابات لعدم رحيل كل رموز النظام السابق، وعدم إطلاق سراح الموقوفين من الشباب والناشطين الذين اعتُقلوا في المسيرات.
وأمام هذا الوضع انشقت بعض الفئات التي اختارت الذهاب إلى الانتخابات. وواصل الحراك مساره كل جمعة وثلاثاء متعهدا بالاستمرار. كما لايزال الحراك يتفاعل مع كل الأحداث والمستجدات، وينظم ”استفتاءات أسبوعية بالشارع” للإدلاء برأيه في كل القضايا، رافضا كل المحاولات التي تريد ركوب الموجة أو تمثيله أو زعامته وتوجيهه.
وقد اعترف رئيس الجمهورية في خطابه الأخير أمام الولاة، باستثنائية هذا الحراك، الذي أسس لجمهورية جديدة لا ترجع إلى ما كانت عليه البلاد قبل 22 فيفري 2019 مهما كانت الظروف، وحافظ على الدولة الوطنية بوعي المواطنين، ووضعهم المصلحة العليا للبلاد فوق كل اعتبار، حيث وصف الحراك بـ ”قوة الشعب التي لا تُقهر، وهو حراك سلمي مبارك”، داعيا المسؤولين إلى العمل على الاستجابة لباقي مطالبه.
وكان الرئيس تبون أعلن مباشرة بعد انتخابه رئيسا للجمهورية، أنه يمد يده للحراك، وأنه مستعد للتحاور معه لإيجاد حل للأزمة بداية بتعديل الدستور، ومواصلة محاربة الفساد، وإنصاف كل من ظُلم من طرف النظام السابق.
أما وزير الاتصال الناطق الرسمي للحكومة عمار بلحيمر فاعتبر في تصريح له مؤخرا، أن الحراك يمكن أن يكون مستقبلا في إطار إعادة تشكيل الساحة السياسية، بمثابة ”نظام لليقظة”، يسمح ببروز مجتمع مدني جديد، مضيفا أن الحراك كرّس يوم 22 فيفري ”يوما وطنيا”.