أااا.. يا ”صوفيا”... أمس واليوم و.. بعد غدٍ
- 831
تم في التسعينيات تعديل نظام البلديات الجزائرية (1541 بلدية) للتخلص من كل من كان ينتسب للجبهة الإسلامية.. حيث أصبحت البلديات تدار بنظام لقيط اسمه الإدارات التنفيذية، وأصبح كل ما هو إسلامي شيئا أشبه للسلطات بالجمل الأجرب.
وفي تلك المرحلة كان في حي ”المرادية” (نسبة لمراد ديدوش) كنيسة قديمة مهجورة تحمل اسم ”سانت آن”، والكنائس في الجزائر تخضع لرعاية الأسقفية التي كان على رأسها آنذاك ”مونسينيور تيسيي”، خليفة الكاردينال ”دوفال”، وهو قسيس بالغ الحيوية شديد الذكاء متميز في مجال العلاقات العامة خبير في ”كل” شؤون الجزائر.
وللتوضيح، أقول بأننا التقينا يوما في حفل ديبلوماسي وكان معنا المثقف العروبي الجزائري عثمان سعدي، الذي كان يمتدح تحكم مونسينيور في اللغة العربية قائلا بأن هذا ليس أمرا غريبا، فهو كان طالبا في كلية الآداب بجامعة القاهرة في منتصف الخمسينيات.
وتدخلت أنا في الحوار قائلا، كنكتة، بأنني لم أكن وُلدْتُ آنذاك، وإذا بالأسقف يقول لي بهدوء: أنت كنت يومها في السنة الأولى بكلية الطب جامعة عين شمس....(هكذا).
وترفض أسقفية الجزائر بيع المبنى الآيل للمواطنين بمجرد أن ”نما” إليها أنهم سوف يقومون ببناء مسجد مكانها، وفضلت أن تتنازل عن المبنى لبلدية المرادية بقيادتها المؤقتة، التي تجاوبت معها، وأقيم مكان الكنيسة مبنىً يستعمله اليوم أحد فروع وزارة المناجم.
وكان يجب أن أدور كل هذه الدورة ليفهم من لا يريد أن يفهم أن الموقف من الإسلام موقف عميق الجذور موجود جغرافيا على امتداد الكرة الأرضية وعلى كل المستويات، وهو ما يُفسّر ردة الفعل على قضية أيا صوفيا، والتي تزامنت مع الاحتفال الإسلامي ”المحتشم” بذكرى مرور ربع قرن على مجزرة ”سربرنيتسا”.
وليس في هذا أي غرابة، فالقوم أوفياء لعقيدتهم الدينية، ولن نجد في تاريخ فرنسا الكاثوليكية رئيسا غير كاثوليكي، ولم أقل غير مسيحي، لكن الأمر يختلف في هذا الزمن الرديء مع قيادات المجموع الإسلامي في معظمها والتي أصبحت تتصرف طبقا لما نسب للسيد المسيح، فهي تدير خدّها الأيسر مع كل صفعة تتلقاها على الخدّ الأيمن، وتتصرف بشكل مماثل مع كل ضربة على القفا أو ركلة على المؤخرة.
وبفضل ذهب المعز وسيفه تم تبرير كل صفعة وكل ضربة وكل ركلة، والإساءة لكل من يقف وقفة عز وكرامة.
ومع القرار الذي عرفته تركيا، عشنا صورة مقززة لعلماء السلطان، فبالأمس سمعت ”نحس” الدين الهلالي يعلق ساخرا ومشككا في خبر قيام قساوسة استانبول ببيع مبنى الكنيسة المهجور، وقبلها أكد من لا يُشرف الأزهر انتماءه له، عباس شومان، أن ”التوجه التركي لتحويل كنيسة آيا صوفيا لمسجد لا يتفق مع الإسلام ويتنافى مع تعاليمه السمحة التي تحترم دور العبادة لكل الديانات” (متناسيا بفجور واضح أن المبنى كان مسجداً لمدة 481 عاماً، وجرى تحويله إلى متحف عام 1934 ولأقل من 100 عام).
وقرأنا لمن كتب يقول: تحويل ”آيا صوفيا” إلى مسجد، ما هو إلا مزايدة رخيصة تستخدم الدين في غير موضعه وتنتهك أبسط قواعد الإنسانية والتحضر.. وهكذا يفعل العثماني الأحمق دائماً (هكذا).
وقرأنا لمن أعطى لنفسه حق تمثيل كل المسلمين، فأفتى بأن الصلاة في ”أيا صوفيا” لا تجوز، أما في محتشد ”أوشفيتز” فلعلها بألف صلاة.
وهكذا أصبحت القضية تصفية حساب مع نظام الرئيس أردوغان ولكن بأسلوب بالغ الغباء، لأن شيطنة الخصم السياسي بشكل مطلق لا يمكن أن تكون لها أي مصداقية، والذكاء عند محاولة الإساءة للخصم تفرض أن تذكر له فضيلة واحدة وليس أن يهاجم بشراسة بليدة عند اتخاذه إجراء يمكن أن نقول عنه أنه ملتبس المعطيات، ولكن له حسنات وسيئات.
وسنرى أن المواقف المتشنجة للكنيسة وللنصارى بوجه عام ستقود، يوما ما، عندما نتخلص من علماء السلطان، إلى ردود فعل إسلامية لن تأخذ بعين الاعتبار تعليمات قيادات تفقد كل يوم أكثر فأكثر فاعليتها القيادية، تماما كما حدث في السنوات الماضية مع رجال دين فقدوا مرجعيتهم فالتقطها دعاة إسلاميون متعصبون كانوا وراء الكثير من ردود الأفعال المتطرفة التي قام بها شباب أصبح يعيش ”بارانويا” كره الآخرين.
وما كان بالأمس استثناء ندد به جل المسلمين، قد يصبح بعد غد جائحة أسوأ من ”كورونا”، تصيب أجيالا جديدة من الشباب، تتعاظم لديها يوما بعد يوم ردود الفعل الغاضبة على تصرفات الشمال، وعلى المستلبين من بيننا ممن يمثلون الرماد الذي ولد من نار الجهاد الهائلة.
والسبب أكثر من واضح، فقد أصبح الخلط بين الفتوحات الإسلامية في أوروبا وبين مسلسلات الغزو الاستعماري سلعة استهلاكية، مع أن الفرق واضح بين الوجودِ الإسلامي في أوروبا، بكل ما أنتجه من إنجازات حضارية، والاستعمارِ الذي لم تعرف منه شعوبنا إلا الفقر والجهل والمرض والتشوه الفكري، وكان عملية تطهير عرقي واسعة المجال.
ومن هنا أقول بأن من مصلحة الشمال أن يتحكم في ردود الفعل الغربية المستفزة للمسلمين حتى لا تفتح ملفات الماضي ويستذكر الجميع مذابح دير ياسين وكفر قاسم التي ذكرت بمذابح قسنطينة وقالمة وخراطة في الجزائر عام 1945، وفيما بعد مذبحة صبرا وشاتيلا ثم مذبحة قانا، وبينهما مذبحة بحر البقر في مصر، ثم مأساة البوسنة ثم مأساة الشيشان على يد الروس والصرب، وما يعانيه شعب ”الروهينغا” اليوم ليس ببعيد.
وقد يتوقف مجموع المسلمين عند تشويه الغربيين لصفة ”الجهادي” النبيلة، التي أصبحت تطلق على أي مسلم يُتهم بأي اعتداء، في حين أن غير المسلم، ومهما كان نوع جُرمه وعددُ ضحاياه، يُطلق عليه تعبير ”الوطني المتطرف” (Ultranationaliste) بدءا بالصربيّ الذي قتل وليّ عهد النمسا، وأشعل فتيل الحرب الأوربية الأولى، ومرورا بالنرويجي الذي قتل 77 شخصا في لحظات وهو يرفع التحية النازية، ووصولا إلى الكندي الذي قتل جزائريين في مسجد الكيبيك.
وسيعطي كل ذلك الفرصة لبعض أشباه العلماء المرتبطين بتوجهات مذهبية معينة لتجنيد شباب محدود الخبرة ملتهب العاطفة، لارتكاب عمليات انتقامية لن يستطيع أحد السيطرة عليها، لأنها قد تتم بأسلوب غير متوقع سيذكر يومها بجائحة ”كورونا”.
ولعل من دلالات ما يمكن أن يحدث هو إلقاء جثمان ”أسامة بن لادن” في البحر، خوفا، كما قالوا، من أن يتحول قبره إلى مزار مقدس، وكان من المضحك المبكي أن القُوى العظمى تحس بالرعب من جثة ممزقة.
واسترجع مرة أخرى كلمات الرئيس بومدين في رده على الرئيس جيسكارد ديستان، عندما قال: لقد قلبنا صفحة الماضي ولكننا لم نمزقها، ومن هنا فإن مآسي كثيرة يمكن استرجاعها في لحظات لتكون وقودا للذاكرة الجماعية لشعوبنا، تشعل عدوانية لا يعرف إلا الله مداها وعنفوانها وقسوتها.
وسوف تتفجر صرخات شباب لم يلوثه مال النفط ليرفض، بطرق يعلم الله حجم عدوانيتها ومدى اتساعها، ليرفض أن يُجرّمنا من تفوقوا على أكثرنا إجراما عبر العصور، وليقول بكل يقين إن المسلمين كانوا دائما محاربين شرفاء، ولم يحدث أن قتلوا أسيرا لديهم، كما فعل بونابرت في يافا، وكما فعل الإسكندر قبله في غزة، وكما فعل المتحاربون الأوربيون أنفسُهم في حروبهم.
وتواصلُ استفزاز المسلمين سينتج عنه جيل من الشباب يتذكر ويُذكّرُ بأن أفران الغاز كانت اختراعا أوروبيا، وقتلُ عشرات الآلاف في لحظات كان إنجازا أوروبيا وكان منه ما عرفته هيروشيما وناغازاكي، وسيقول الشباب للأوروبيين إن الحل النهائي للقضاء على اليهود لم يكن اختراعا إسلاميا، بل كان وباءً أوروبيا، ولم يُعرف عن الحركات العقدية العربية والإسلامية أنها قامت بتصفيات عرقية كالتي قام بها الجراد الأوروبي الجائع في الأمريكيتين ضد من يُسمّون بالهنود الحمر، وهو ما استلهمته فرنسا في مذابح الجزائر ثم إيطاليا في ليبيا وبريطانيا في جنوب إفريقيا وبلجيكا في الكونغو، واقتدت بها إسرائيل في استعمارها الاستيطاني للأرض المحتلة.
وسيقول شباب الجيل الجديد لمن قد يحاولون تهدئتهم إن الوطن العربي لم يعرف عملياتِ تصفية مذهبية كالتي قامت بها محاكم التفتيش في إسبانيا، وقتل وشُرّد فيها عشرات الآلاف من المسلمين، بل ومن اليهود ”السفارديم”، الذين أحسنا استقبالهم في بلادنا، ثم لقينا منهم جزاء سنمار، ولم يعرف الوطن العربي مذابح كمذبحة ”سان بارتيليمي” التي أمر بها شارل التاسع في فرنسا ضد البروتستانت في القرن السادس عشر، ولم تكن أرض الجزيرة البريطانية هي الوحيدة التي روتها دماء المذابح المذهبية.
وكانت فرنسا الرسمية هي التي ابتكرت القرصنة الجوية وخطف الطائرات المدنية، التي أصبحت تربط دائما بالمناضلين العرب.
ولم يحدث أن أعدم المسلمون مُتهمًا بطريقة ”الخازوق” البشعة التي استعملتها فرنسا في مصر مع سليمان الحلبي، ولم يحدث أن علقت على المشنقة رفات سياسي بعد موته، كما حدث مع كرومويل في بريطانيا، ولم يحدث أن أعدم إنسان حرقا مثل جان دارك، ولم يحدث أن قتل العرب وسيطا نزيها مثل برنادوت، أو خصما مقعدا مشلولا كالشيخ ياسين.
ببساطة شديدة وبدون لفّ أو دوران.
نعترف بأن معظم مناطق الوطن العربي والعالم الإسلامي هي اليوم في الحضيض، لكن الأيام دُول، والعاقل من يتذكر تحليلات ”أرنولد تونبي” عن دورة التاريخ، ومن مصلحة السلم العالمي أن تدرك فعاليات الأديان السماوية بل وغير السماوية أن الإسلام، بكل ما يعنيه، هو ضرورة للتوازن الدولي.
ولست أحمقاً لكي أحض على كراهية الشمال بشكل مطلق، بل إنني أحذر من التوجهات الاستعمارية التي تحاول تضليل الشعوب لمصلحة الاحتكارات بكل أنواعها، وهدفها الاستراتيجي هو الحفاظ على مصالح مشبوهة في أوطاننا عبر الاستعمار ”المحلي” الذي يمارسه قادة مستلبون، يُسيّر كثير منهم بتسجيلات مصورة عن فضائحهم الجنسية، ويمارسون العمالة على حساب ازدهار بلادنا وتقدمها.
ولن يمكن التستر طويلا على أن من أهداف القيادات الغربية تحجيم الدور السياسي والاجتماعي للمسلمين والعرب المستقرين في الشمال، حيث زُرعت المخاوف، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، من ”أسلمة” القارة الأوروبية، وهو توجّه خبيث يروجه اللوبي اليهودي واليمين المتطرف.
ولا يمكن أن ننسى أن من الأهداف حرمانُ الجنوب من تعاطف شعوب الشمال، وهو تعاطف يجب أن نعترف بما كان له من دور في انتصاراتنا، وخصوصا في الجزائر والفيتنام، وهو موقف نبيل نسجله دائما لمثقفين غربيين، يعتم عليهم الغرب نفسه.
ولقد تم تجنيد قوى هائلة للقضاء على الإسلام في الجزائر، لكن كل هذا أدى إلى نتائج تتناقض تماما مع الهدف المطلوب، وإلى درجة أن مواطنة جزائرية قدمت لها راهبة قطعة من الحلوى باسم السيد المسيح، فأخذتها السيدة الأميّة قائلة، وهي تضعها في فمها: بسم الله الرحمن الرحيم.
وأذكر بقول الشاعر:
أرى تحت الرماد وميض نارٍ..... ألا هل حذّرْت ؟