الذكرى 166 لاستشهاده الشريف بوبغلة

البطل الذي وحد الجزائريين حيا وميتا

البطل الذي وحد الجزائريين حيا وميتا
  • 579
م . ب - وأ م . ب - وأ

مرت أمس، 26 ديسمبر 2020، الذكرى 166 لاستشهاد البطل محمد لمجد بن عبد المالك المدعو الشريف بوبغلة، الذي سقط في ميدان الشرف يوم 26 ديسمبر 1854، رافعا لواء الجهاد وجامعا الجزائريين حول نبراس الوحدة الوطنية، والذي اتقد مجددا بعودة رفاته من باريس عشية عيد الاستقلال الأخير.

وإن سقى الشريف بوبغلة، بدمه الطاهر تراب الوطن، وأنبت بعد قرن جيلا أطلق أعظم ثورة في التاريخ المعاصر، فإن ذكرى استشهاده هذه السنة، كانت عنوانا للذاكرة الوطنية التي أضحت أولوية تقود توجهات الدولة الجزائرية، و"واجبا وطنيا مقدسا لا يقبل أي مساومة”، حسب ما تضمنته كلمة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، خلال ترؤسه في 3 جويلية الماضي، عشية الاحتفال بالذكرى الـ58 للاستقلال جنازة رسمية واستقبالا شعبيا مشهودا،  نظم بمناسبة وصول رفات البطل بوبغلة إلى جانب 24 بطلا من رموز المقاومة الشعبية، التف حولهم الجزائريون واحتضنوهم بأياد متشابكة قبل أن تتلقاهم تربة مربع الشهداء بمقبرة العالية بالعاصمة.

المميز في تاريخ الشريف بوبغلة، ليس خروجه منفردا على دابته يجمع الناس حول كلمة الحق ورفض الاضطهاد ودعوته لوحدة الدم والدين والأرض فحسب، بل أيضا أنه قض مضجع جنرالات فرنسا الاستعمارية ولو بأسلحة وعتاد قليل، وتمكن خلال قرابة الأربع سنوات من الكفاح من توطيد اللحمة بين مختلف القبائل ومجابهة الاحتلال على قلب رجل واحد، وهو القادم من الغرب الجزائري للقتال مع إخوته في جبال جرجرة.

واستقر الشريف بوبغلة، في بادئ الأمر بسور الغزلان بالبويرة في سنة 1849، ثم انتقل إلى قلعة بني عباس بمنطقة القبائل ثم ببني مليكش ببجاية. وتشير بعض المصادر إلى أن بداية نشاطه تعود إلى مطلع عام 1851، عندما ارتابت فيه السلطات الاستعمارية، فأخفى شخصيته وأهدافه واتصل بشيوخ بني مليكش ومنها أخذ يراسل الشخصيات البارزة في المنطقة وسكان جبال البابور والحضنة والمدية ومليانة وجبال جرجرة، يدعوهم إلى الانضمام إليه لمحاربة الفرنسيين. وقد دعمه في ثورته سي قويدر التيطراوي.

وتنقل الشهيد البطل من منطقة لأخرى يدعو لحركته، حتى امتدت إلى حوضي بجاية ومنطقة البابور، حيث قاد خلالها عدة معارك ضد الفرنسيين منها معركة أوزلاقن شهر جوان 1851، والتي اصطدم فيها بقوات العقيد الفرنسي “دي ونجي” وأعوانه وقتل خلالها عدد كبير من الطرفين.

لقاء الشريف بوبغلة ولالا فاطمة نسومر

وكان أول هجوم قاده الشريف بوبغلة في شهر مارس من سنة 1851، بمنطقة أقبو ضد الباشاغا بن علي شريف، وهو إقطاعي ومساعد للإدارة الفرنسية. ومن ثمة راح يكثف هجوماته ضد عدة مراكز فرنسية في كل ربوع المنطقة. ما جعل السلطات الفرنسية التي كانت متخوفة من حجم هذه المقاومة تركز اهتمامها لتخمدها، بل وراحت تستقطب قوى هامة تحت لواء كبار الضباط على غرار دورال وبلانج وبوبريت وبوسكي ودوبروتال وكامو.

لكنه اضطر إلى مغادرة آث مليكش واجتياز جبال جرجرة شرقا ليحط الرحال بالضفة الجنوبية لولاية تيزي وزو حاليا، حيث أقام أركانه وخطط هجوماته ضد جيش الاحتلال، وهنالك التقى “الجبلان” الشريف بوبغلة ولالا فاطمة نسومر، رمزا المقاومة بجرجرة، واغتنم الشريف بوبغلة فرصة تجنيد الفرق العسكرية الفرنسية في حرب القرم (1853-1856)، ليكثف هجوماته ويدعو القبائل إلى الثورة والانضمام إلى قضيته، حيث نجح في ضم كل من آيت جناد وآيت إجر. وقد أصيب على مستوى الرأس خلال معركة دارت رحاها في قرية “تيغيلت محمود” قرب سوق الاثنين.

وإزاء تصاعد وتيرة المقاومة قام حاكم عزازقة، الجنرال “روندون” بإطلاق فرق عسكرية منتصف سنة 1854، ليذيقوا القبائل الثائرة شر العذاب، وأصيب البطل على إثر واحدة من الاشتباكات بجروح وعاد أدراجه إلى بني مليكش ليستأنف مقاومته هناك.

وكان اللقاء بين رمزي المقاومة، بوبغلة وفاطمة نسومر حدثا تاريخيا عظيما، وحتى وإن شحت حوله المراجع، فإن بعض المؤرخين ينقلون حادثة جمعت بينهما حين أصيب الشريف بوبغلة في إحدى المعارك في شهر أفريل 1854، فأنقذته لالا فاطمة نسومر، وقالت له وهي تسعفه “أيها الشريف، لن تتحول لحيتك إلى عشب أبدا”.

ولأن أي ثورة تسقطها الخيانة وأي وحدة ينسفها التآمر، فإن نهاية الشريف بوبغلة، كانت على يد الوشاة، حيث ورغم خروجه في 21 ديسمبر 1854 رفقة رجاله من مضاربهم خوفا من الوشاية، إلا أن عملاء فرنسا ورجالاتها رصدوا تحركاته وألقوا عليه القبض، قبل أن يقطع رأسه ثم أخذ وسلم لحاكم برج بوعريريج، فربط هذا الأخير رأس الشريف على عصا وعرض حصانه وسلاحه وثيابه والختم الذي كان يستعمله في مراسلاته لإرهاب الجزائريين غير أن المقاومة لم تمت بموته..

وعندما حانت ساعة (مول الساعة) وهو لقب آخر لبوبغلة، قررت فرنسا الاستعمارية نقل رأسه إلى متحف الإنسان بباريس، في محاولة لإيقاف مجرى التاريخ وإطفاء شعلة المجد، وبعد قرن استلم الشعلة رفقاء العربي بن مهيدي، الذي خاطب فرنسا الاستعمارية قائلا “إنكم ستهزمون لأنكم تريدون وقف عجلة التاريخ، وإننا سننتصر لأننا نمثل المستقبل الزاهر”..


محمد الأمجد بن عبد المالك (بوبغلة): القدر الفريد لمقاوم شعبي أرهق المستعمر

تعتبر حياة المقاوم البطل محمد الأمجد بن عبد المالك المعروف بالشريف بوبغلة، الذي قدم من غرب البلاد وحارب الغزو الفرنسي بمنطقة القبائل، مثالا حيا للوحدة الوطنية في مقاومة الاستعمار الفرنسي.

فعلى عكس قادة المقاومات الشعبية آنذاك الذين نظموا في معظمهم المقاومة في مناطقهم الأصلية ومع أفراد قبيلتهم، فقد نظم بوبغلة المقاومة -التي أضحى رمزا لها - في المنطقة التي قدم إليها لاجئا، حيث وصل بوبغلة من غرب البلاد إلى جنوب غرب البويرة مرورا بمنطقة سور الغزلان عام 1849، وهو في الأربعين من عمره وفق المهتمين بتاريخ هذا المقاوم الفذ.

وحط رحاله في قبيلة أث عباس في الحدود الشمالية لمنطقة البيبان، قبل الانتقال إلى منطقة أث مليكش جنوب جبال جرجرة، التي أضحت فيما بعد قاعدته الخلفية ونقطة انطلاق المقاومة الشعبية.

وارتاد الشريف بوبغلة، في بادئ الأمر أسواق المنطقة، حيث كان يقصده الناس للعلاج بالأعشاب وغيرها من الطلاسم، ما مكنه من التعرف على أناس المنطقة وأعرافهم وعاداتهم. ليعمد فيما بعد إلى إرسال رسائل للأعراش والقرى المجاورة طالبا منهم المساعدة من أجل تشكيل جيشه. وبالفعل تمكن من إقناع العديد من وجهاء المنطقة موازاة مع إزعاج مصالح آخرين. وخاض الشريف بوبغلة، الكثير من المعارك بالمنطقة، قبل اضطراره لمغادرتها للتخلص من ضغط القوات الفرنسية. حيث انتقل إلى الجهة الشمالية من جبال جرجرة وكرس قواه لتجنيد قبائل المنطقة قبل مواصلة هجماته ضد الاستعمار الفرنسي.

قدرة خارقة على الإقناع

حسب الأستاذة الباحثة في التاريخ بجامعة مولود معمري بتيزي وزو، مزهورة صالحي، “يتمتع الشريف بوبغلة بقدرة وقوة هائلة على الإقناع مكنته من حشد معظم قبائل المنطقة، التي كانت ضحية لضغوطات وانتقامات قوات الاستعمار تحت لواء المقاومة”، فيما نوه المؤرخ عمر كيرجا، بقوة خطاب الشريف بوبغلة، الذي كان يدعو إلى “الجهاد ضد المحتل القادم من أوروبا من أجل نشر دينه”، وهو الخطاب الذي “لقي صدى إيجابيا لدى سكان المنطقة الذين لم يرقهم دخول الفرنسيين إلى أراضيهم”.

وأبرز المؤرخ أن التقاء هاتين الصفتين في شخصية الشريف بوبغلة، إضافة إلى شهرته الكبيرة في العلاج بالأعشاب والطلاسم التي اكتسبها عبر أسواق المنطقة، جعلت منه “خصما قويا تمكن في وقت قصير من فرض هيمنته وتوسيع نفوذه عبر كل منطقة القبائل تقريبا”.

كما لاحظت الأستاذة صالحي “توجه بوبغلة على غرار كل قادة المقومات الشعبية آنذاك، بسبب غياب الوسائل، إلى تجنيد السكان والقبائل المحلية كسلاح للمقاومة مع العمل على عدم البقاء في نفس المكان لمدة طويلة”. وهي الاستراتيجية التي اعتمدها الأمير عبد القادر- الذي يقال أن بوبغلة، كان أحد فرسانه - سنوات قليله قبله.

وأوضح المؤرخ كيرجا، بشأن هذه الاستراتيجية أنها تعتمد على “مهاجمة العدو بسرعة والضغط عليه من أجل الانسحاب أو العودة إلى الوراء”، كما كان أيضا ـ يضيف نفس المؤرخ  ـ “خبيرا في استغلال نقاط ضعف العدو الفرنسي من أجل شن هجماته، على غرار ما حصل لدى انخراط القوات الفرنسية في حرب القرم، إذ ضاعف الهجمات على العدو آنذاك، موازاة مع دعوة قبائل المنطقة إلى التمرد والانضمام إلى المقاومة”.

واشتهر محمد الأمجد بن عبد المالك بعديد الألقاب أشهرها على الإطلاق “بوبغلة”، وفق السيدة مزهورة صالحي، التي ذكرت أيضا من ضمن الألقاب الأخرى التي عرف بها هذا المقاوم الشعبي “أبو سيف” و"مول الساعة”، مبرزة “القدر الفريد والعجيب” لهذا الرجل الذي “يبقى المؤرخون إلى يومنا هذا مختلفين حول هويته الحقيقية، بل وحتى أصله وسنه وحياته قبل المقاومة”، مشيرة إلى أن البعض كانوا يصفونه بأنه “رجل متحفظ الطباع”.

كما أشارت أيضا إلى غياب المعلومات أو قلتها عن صفاته الجسدية، حيث كان يصفه البعض بأنه “رجل زاهد ذو بشرة داكنة ولحية وافرة، لا أكثر”، فيما يرى المؤرخ كيرجا، في هذا الصدد أنه “مهما كان أصله، فإنه مثال للرجل المقاتل الذي تصدى للعدو، وكشف عن شخصية فذة وخصم قوي”.

وقاوم الشريف بوبغلة، العدو الفرنسي لمدة أربع سنوات تمكن خلالها من هزيمته لعدة مرات وأجبره على تجنيد أحسن ضباطه وقواته.

وتم القبض عليه بعد إصابته يوم 26 ديسمبر 1854، خلال معركة بوادي الصومام. وفي 28 ديسمبر قطع جيش فرنسا الاستعمارية رأس هذا المحارب الفذ، ليتم عرضها كغنيمة حرب بمدينة برج بوعريريج، قبل نقلها إلى فرنسا، أين احتفظ بها بمتحف التاريخ الطبيعي بباريس، إلى غاية استرجاعها خلال شهر جويلية الفارط، مع جماجم 23 مقاوم شعبي آخر تصدوا للاحتلال الفرنسي بالجزائر.