عرف مشاركة تشكيليين من 16 دولة
أفريقيا "تشكل" في معرض جماعي بالقاهرة
- 1009
حمل المعرض التشكيلي الجماعي "أفريقيا بريشة فنانيها" الذي اختتم مؤخرا في القاهرة، رسائل محبة وسلام وإخاء إلى العالم، واستعاد مبدعون معاصرون قدموا من 16 دولة أفريقية عطاء القارة السمراء في مجالات الفنون التصويرية منذ عصور ما قبل التاريخ.
الفنون التشكيلية الأفريقية ذاكرة الحضارات وأحلام الشعوب، ومائدة التاريخ المحملة بالطقوس الدينية والعقائدية، وعطايا الحياة الإنسانية ونبضات الألوان وأنفاس الطين والحجارة والعاج والمعادن النفيسة، وقد انطلقت الرسوم والنقوش والخطوط من جدران الكهوف الصخرية في صحارى أفريقيا، لتؤثر بسحرها الخاص على المشهد الفني في سائر أرجاء الأرض.
في معرض "أفريقيا بريشة فنانيها" الذي استمر على مدى أربعة أيام في مركز الهناجر للفنون بدار الأوبرا المصرية، قدم تشكيليو القارة السمراء بانوراما تصويرية لوجه أفريقيا الثري المتنوع، والمزدان بخيالات الفن الخصيبة، واشتمل المعرض التشكيلي الجماعي على أبرز الأعمال الفنية التي شهدها (ملتقى الأقصر الدولي للتصوير) في دوراته السابقة، وتضمن ما يزيد على أربعين عملا فنيا لأكثر من ثلاثين تشكيليا من ست عشرة دولة أفريقية.
رسم المعرض صورة ناصعة للفن الأفريقي، الذي يحظى بمكان ومكانة منذ أقدم العصور في حركة الفن العالمية الحديثة، ويساهم فيها بتجلياته الراهنة ذات الإشعاع الإنساني والروح الشعبية والامتداد المتجذر في التربة المحلية.
تمثلت في المعرض كنوز الفنون التقليدية وعناصر الفلكلور الأفريقية التي تحكي قصة الظهور الأول للإنسان، وتسترجع نشأة الاتجاهات الفنية الحديثة، كالرمزية والتكعيبية والتجريدية وغيرها، وانطلاقها وتطورها من القارة السمراء.
عراقة وحداثة
استوفت أعمال المعرض خصائص الفن الأفريقي وعناصره، مُوازِنة بين العراقة والحداثة، والأصالة والمعاصرة، وجسدت الرسوم المتنوعة قيمة فنية خالصة، وسجلا وثائقيا يسرد سيرة الإنسان منذ آلاف السنين.
من أبرز ملامح الأعمال الأفريقية في المعرض الجماعي، اقترانها بالقيم والعادات والتقاليد المجتمعية، والسحر والقوى الروحية والعقائد الدينية، والفن الأفريقي منذ القدم لا ينفصل عن خدمة الديانات وتلبية الاحتياجات الروحية والبحث في عوالم ما وراء الطبيعة، بالإضافة إلى الزينة والزخرفة والأغراض الجمالية المجردة.
شهدت لوحات المعرض أيقونات ورموزا تقليدية، انصهرت في المشهد التشكيلي المعاصر، منها الأقنعة الأفريقية، على سبيل المثال، وهي نفسها العناصر التراثية النابهة التي فجرت بواكير الاتجاهات الفنية الحديثة، من رمزية وتجريدية وتعبيرية وتأثيرية وغيرها، كتلك الأقنعة الملونة مثلا، التي استلهمها بيكاسو في تطوير مدرسته التكعيبية الشهيرة.
يشكل القناع في الثقافة الأفريقية معنى التخفي وتقمص أرواح الأجداد للتواصل مع الأجيال المتعاقبة، كما قد يرمز القناع إلى مناسبة اجتماعية بعينها، كالزواج أو دفن الموتى أو الحروب أو الحصاد.
برزت الأسطورة كسمة مميزة في لوحات المعرض، وهي رافد فني بالغ الأثر في الفنون الأفريقية منذ عصور ما قبل التاريخ، خصوصا عند مزجها بالسحر والطاقة الروحية، بما يعكس الهوية الحضارية لشعوب أفريقيا، المنشغلة بالحياة والموت في آن، والبعث بعد الموت والميزان والحساب ودار الخلد.
انسجام القلوب
رغم اختلاف الفنانين المشاركين في المعرض وتعدد الدول التي ينتمون إليها، جاءت أعمال المعرض متجانسة، بما يعني انسجام قلوب الفنانين التي حملت إلى العالم رسائل محبة وسلام وإخاء بلغة الفن الرفيع، ذات حروف ودلالات سامية ومشتركة.
مثل هذا التقارب، إلى حد التماهي، أبرزته أعمال آن نتنياري مويتي من كينيا، وساندي إيساو من جنوب أفريقيا، ودانيال ألماييه من إثيوبيا، على سبيل المثال، بأقنعتهم ووجوههم الفرعونية، كما جسدته أعمال سيلاس أديلانكي أديوي الناهلة من الفنون العربية الإسلامية بمنمنماتها وفسيفسائها وأشكالها الهندسية المألوفة في فن الخيامية وفنون الأقمشة الملونة.
اشتغل الفنان معتز الإمام من السودان على مواسم الحصاد وطقوس الزراعة التقليدية، ومراحل إعداد الخبز في البيئة المحلية الشعبية وملامح الحياة القروية البسيطة، وترجمت هالة عموص من تونس، صراعات الإنسان مع المدنية الحديثة والآلات الصناعية إلى دوامات لونية مخيفة وأسلحة عبثية، في حين رسم عبد الكريم عيسى من السودان، وجوه الإنسان البدائي، باعتبارها شموسا للحضارة ومنبعا للصفاء الروحي، مطلقا طيوره البيضاء في عالم شفيف يحلم باستعادته.
جاءت أعمال كيرفن كيوبيدو من جنوب أفريقيا، لتبعث ذكريات الطفولة المبهجة بألعابها وأضوائها وفوانيسها الملونة في القارة السمراء الدافئة، بفضل التواصل الإنساني والعلاقات العائلية الحميمة.
أطلق جميل شفيق من مصر خيوله الجامحة وأسماكه الأسطورية خارج البراويز، ليسيطر الخيال على الفضاء، والإنسان على الوجود باكتماله وجلاله ورغبته في أن يسود.
كما التقت أعمال حسان علي أحمد وأمير يوسف من السودان وفاتن الرويسي من تونس، في تصوير تجريدي للانفجاريات اللونية في ما يشبه أجواء البراكين والزلازل والانهيارات الأرضية والصخرية، حيث تنصهر الكائنات والموجودات ويتفتت البشر أو يتحولون إلى دمى صغيرة، وعكست أعمال هؤلاء الفنانين مشاهد من الغابات والصحارى الأفريقية بألوانها الصارخة المفزعة.
في المقابل، حملت أعمال يمينة العيوني من تونس، ونجلاء الشفتري من ليبيا، ومحمد العيساوي من المغرب، نزعات التجريد في تصوير الوجوه والأقنعة الأفريقية بعد صهرها وإذابتها وإزالة معالمها وتفاصيلها المألوفة، لتكون سوائل من لهيب في البحار أو ألسنة بخار ودخان في الهواء، وتحولت دروب الحياة ومسالكها إلى متاهات وبارود وحروب يخشى الإنسان مواجهتها، مفضلا الانسحاب إلى جذوره الآمنة في الأرض الطيبة.