محمد جعفر يعرض كتابه "ابتكار الألم"
إبداع خارج نمطية الكتابة القصصية
- 636
يقدّم الروائي والقاص محمد جعفر في مجموعته القصصية الأخيرة "ابتكار الألم" الصادرة عن منشورات "الاختلاف"، محاولة جديدة للقفز على نمطية الكتابة القصصية في الجزائر وإعادتها إلى واجهة النصوص المقروءة.
يستعيد الكاتب في المجموعة المكونة من 10 قصص في 104 صفحات، الواقع، ويعيد إنتاجه من وجهات نظر مختلفة، لتبدو كتابته أشبه باستفزاز القارئ والمهتم معا، فهو يراهن على السلوك اليومي والخيبات الصغيرة والحب والنسيان، وعلى ألم وصدق وزيف الكاتب، وعلى السخرية من القضايا التي تُفرغ من جوهرها.
يفتتح محمد جعفر مجموعته بنص "صوت"، وهو سؤال موجه للكاتب، ثم جواب يشبه موقفا استباقيا يقدمه للقارئ والمهتم حول نظرته إلى الكتابة وأساليبها، ليكون بيانا عن القصدية في تغييب الإغراق في الذاتية والمبالغة الشعرية ولغة الاعتراف.
ويضع الكاتب القارئ في زوبعة احتمالات مع قصة "الشك"؛ حيث الزوجة تفتش عن صاحب الرقم المكتوب على منديل ورقي بجيب الزوج، وبينما تستدعي كل فرضيات الرقم تمر إلى ذاكرتها وتتورط في الشك أكثر، لتجد نفسها تبكي فراق زوجها، ورغم أن الاحتمالات رُتبت بشكل جيد ما يشد القارئ، إلا أنها قطعت فجأة بسرد متواصل، يجعل من القصة نصا بمستويين صادمين لأفق قارئ بسيط.
وفي قصة "الحاجز" يحمل جعفر القراء إلى تحولات الجزائر في مطلع التسعينات، ويؤرخ عبر عنوان جريدة ومسارات البطل القادم من هجرة أو منفى سنوات إلى الوطن، لبدايات الخوف والتشظي، ولكن للقصة رمزيتها؛ ففي الوقت الذي تأزمت البلاد كان البطل يعود من هجرته؛ كأنه يحتفي بانتمائه ويقاوم.
ويقدم محمد جعفر نصا واقعيا ورمزيا مكثفا في قصة "القضية"؛ حيث الكاتب الذي يتعذب بالهامش، ويسعى للتتويج بجائزة تضعه في قلب الشهرة، ورغم محاولاته العديدة ليكتب عن قضية ما، فهو يفشل في كل مرة، ليعثر بمساعدة زوجته على "القضية الفلسطينية"، ثم يفكر قبل كتابة النص، في كوفية فلسطينية لحفل التتويج بجائزة عربية كبيرة، وعلى قدر بساطة الفكرة التي يطرحها جعفر يبرز مدى تشابك الزيف بالواقع في القضايا الكبرى.
وفي قصة "الأعمى مبصرا" يوغل القاص في اختبار القارئ مجددا، حيث يضع فواصل وخطابات مباشرة موجهة له لتبرير خياراته. والأهم أنه اشتغل على موضوع مكرر، لكنه أظهره بأسلوب وطريقة مختلفة، حيث يقترح قصة حبيبين افترقا وجمعتهما حفلة بعد ثلاث سنوات، وتعذّر تواصلهما. وخلال ذلك يترصد الكاتب عبر بطله، ردات فعل العاشق وتحولات العشق.
يجيد محمد جعفر لعبة اللوحات المكررة في نصه "التباس"، الذي يحكي مآسي "حي الدرب العتيق" المكررة عبر الزمن؛ حيث لا ينعتق السكان من الصراعات مع الجهات الأمنية وتحميلهم تهما مكررة، وفيه رمزية للتمرد الذي يسود الأحياء الشعبية الجزائرية، التي واجهت المستعمر في الماضي وظلت فضاء رفض.
أحوال وغرائب من يوميات الناس
يتقن الكاتب قراءة حالات الطفل التائه وتكثيف مشاعره في قصته "لبن طازج"، ويؤرخ لذلك التيه بأنه اللحظة الفارقة التي تُخرج الطفل من طفولته، كأنه يعتبر النضج متاهة الكبار. وفي هذه القصة يتورط الكاتب عاطفيا عكس المسافة التي ظلّ يحافظ عليها في باقي النصوص.
وتُعتبر قصة "المرأة التي سقطت من غيمة" ذروة مفترضة لتصاعد النصوص في المجموعة، حيث يبدو النص كسيناريو لفيلم قصير مكثف لسيدة تفقد زوجها المقتول على يد شقيقها المتطرف، تحاول الانتحار وتفشل. وخلال ذلك يقدم جعفر نماذج بشرية سريعة متعلقة بالنفاق الاجتماعي. ومن عمق البؤس والظلام تفيق السيدة وهي تتحسس جنينا ينمو ببطنها.
في "موعد خارج الإطار" تدعو البطلة علنا الفتيات إلى الاستمتاع بعالمهن الافتراضي؛ حيث يحظين بمعاملة الملكات، خاصة أنها تعذبت في موعد حقيقي قبل أن يصل الشاب الموعود، ووجدت نفسها مرتبكة من دخول الواقع، وانتابها حنين إلى عالمها غير الحقيقي، وهو طرح نقدي مبطن لسطوة شبكات التواصل مقابل تراجع التواصل الحقيقي.
يختار جعفر في "صاحب ظله" عالما غرائبيا؛ حيث يتخلى الصحافي عن ظله أو العكس، ويُظهر لنا حياة عابثة وبائسة لشخص يُفترض أنه يملك أسباب الفرح كلها. وفي النهاية يموت مقتولا بطعنة خنجر، وكان آخر من يلتقي ظله الذي يغطيه بجريدة. وللقصة قراءات كثيرة وعلى أكثر من مستوى.
ويكشف القاص الزيف والقسوة وهما يلازمان الإبداع؛ في علاقة معقدة من خلال قصة "الفحل الذي أكل قلبه"؛ حين يقدم بطله الكاتب الناجح على ممارسة ابتزاز غير معلن على فتاة، هي أيضا كاتبة ناشئة بحاجة إلى دعمه، ويرضيها أن تنخرط في عالمه من أجل ذلك.
وتُعتبر "ابتكار الألم" ثاني مجموعات محمد جعفر القصصية المنشورة. وقد لفت بها الانتباه إلى قاص مختلف رغم اشتهاره ككاتب رواية من خلال رواياته التي صنعت صدى جيدا لدى القارئ العربي، وقد وصلت القائمة القصيرة لـ "جائزة الملتقى"، إلى أكبر جوائز القصة القصيرة في العالم العربي.