الدكتور التونسي المولدي عزالديني لـ«المساء”:

الحرية لا تعني ”افعل ما شئت”

الحرية لا تعني ”افعل ما شئت”
  • 1512

إلتقت لمساء بالدكتور التونسي المولدي عزالديني، من جامعة صفاقس، على هامش مشاركته في الملتقى الدولي السادس للجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية الذي نظم في الفترة الأخيرة، تحت شعار العيش المشترك، وأجرت معه هذا الحوار

❊❊ هل يمكن أن تتغير مفاهيم الفلسفة حسب الزمن الذي تعاصره؟ أم أنها ثابتة لا تتزعزع؟

تحمل الفلسفة مفاهيم متغيرة، غير أن اللامتغير فيها هو نتاجها الدائم للمعرفة والأفكار، كما أنها تتخذ من الإنسان موضوعا رئيسا للنظر.

بالمقابل، تناول المؤتمر السادس للجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، موضوع ثقافة العيش المشترك، وفي هذا، إذا أخذنا مفهوم الثقافة، يحيلنا ذلك إلى مناظيره المختلفة، فيها المعرفي والسياسي والإيديولوجي والاقتصادي، لأن الثقافة هي وجوه متعددة ومتكاملة فيما بينها، إذن هي ثقافة مركبة من جملة من العناصر، أما بالنسبة للعيش المشترك، فهو العيش بين ذوات، ذوات مفردة وذوات مجتمعية داخل المجتمع المحلي أو في المجتمع الكوني، تبعا لذلك يمكننا أن نعتبر أن الإنسان في حاجة إلى الفلسفة، لأنها توفر الحد الأدنى من الحس النقدي والحد الأدنى من الحس السياسي بالمعنى الموّسع لكلمة السياسي في تدبير الشأن العالمي، ثم تتوفر على الحس الأدنى من التاريخ والرؤية للتاريخ، إذن فهذه العناصر الثلاثة: النقد والتاريخ والسياسة، متممة لبعضها البعض وتشكل لدى الفيلسوف، العُّدة اللازمة لتصريف القول، فالفيلسوف يكتب ويقول، صحيح أنه يمكن له أن ينخرط في الممارسة العملية لكنه في الأصل، مفكر ينتج الفكرة ويكتب النص، كما أنه يعمل على تقديم العقل بما أنه الأداة التي يشترك فيها جميع الناس، بصرف النظر عن اختلافاتهم اللغوية والجنسية والعرقية والحضارية غير ذلك، إضافة إلى الاشتراك في عُدة الخلق الرفيع، مما نسميه في الفلسفة المعاصرة بـ«الايتيق، وبالتالي لا بد من توفر هذين العنصرين في القول والممارسة والكتابة والتي تشكل مهام الفيلسوف، أي أن الفيلسوف استوفى في ذاته مهمة المساهمة في القول لتحقيق ثقافة العيش المشترك، وهذا العيش المشترك يمكن أن نصطلح عليه بالتعايش والذي يأتي على وزن تفاعل، والتفاعل في اللسان العربي يفيد الحضور المتساوي لجميع أطراف اللقاء والحضور الندي والمتأدب والعقلاني لهم أيضا، وعليه يمكننا أن نعتبر أن الفلسفة تحتاج اليوم إلى أن تقول في هذا التعايش وأن تؤمّن الحد الأدنى من الشعور بالانتساب بالوطن وبالتاريخ وبالمجتمع وبالآخرين، في ظل ثقافة متفق عليها من طرف الجميع.

❊❊ هل الأزمات التي تمر بها المجتمعات العربية المتعلقة بالهوية والحضارة، مردها عدم قيام الفيلسوف بدوره، أم أننا نحمّله مسؤولية تتجاوز أدواره المنوط بها؟

بعد الطفرة التاريخية البينة التي ابتدأت بعد 14جانفي 2011، والتي أؤكد أنها ليست لحظة تونسية محضة، بل هي لحظة تاريخية، والدليل على ذلك تداخل كل الدول في السياسة العالمية بناء على المتغيرات الحاصلة فيما بعد 14 جانفي، والتي طالت أكثر من بلد وأكثر من مجتمع، أصبح للفيلسوف مهمة تتمثل في ضرورة تعاليه عن هذه المخمصة الإيديولوجية التي باتت تدفع بالأنا وبالآخر إلى التنازع بدلا من التفكير في اعتماد مقولة العقل ومقولة التعايش الايتيقي بين الناس. وهنا في صلب الجمعة الفلسفية العلمية، أقول إنّ البعض من الفلاسفة وقعوا بدون قصد تحت تأثير الفكر الإيديولوجي، خاصة وأن هذا الأخير له بعض الرواسب والجذور في تاريخ الدول العربية، فالفاعل الخارجي المتمثل في الاستعمار القديم يريد أن يتلون ليتخذ صورة جديدة، فدفع بالجماعة العلمية المتفلسفة في الدول العربية إلى أن تنهش بعضها البعض بدلا من التفكير في كيفية تطوير مناحي الحياة الثقافية والسياسة والاقتصادية وغيرها، وهذا من منظور الفلسفة القيمية والنقدية، يجب التبرؤ من الذين وقعوا في الغواية الإيديولوجية وراحوا يتنابزون فيما بينهم، في حين نشجع الذين تمكنوا من اتخاذ مسافة نقدية ويقومون بالقراءة الموضوعية للوضع الراهن، فهم ينظرون بشيء من الروية لوضع البلدان العربية بما ينذر من مخاطر.

نعم يمكن للفيلسوف أن يتخذ ما شاء من التحزب والإيديولوجية، لكن ثمة مشترك يجب أن يكون بين كل الفلاسفة والمتمثل في العقل، ومن الضروري أن يتفطنوا وأن يتخذوا المسافة النقدية اللازمة، وكذا التحرر من السلطة الإيديولوجية، ونلاحظ حدوث تجاذبات بين الفلاسفة في منطقتي المشرق والمغرب العربيين، في ظل استيلاء بعض الكيانات ومن بينها الكيانات الإعلامية لمقام القول الذي من المفترض أن يكون من حق الفلاسفة، فصار بعض الإعلاميين ينتسبون إلى استراتيجية ديمومة عدم التحرر، ونحن نعلم أن تحرر الدول العربية يمس الحاكم والمحكوم، فلا أحد يكره الحرية غير أن في تدبير الحرية يمكن للجماعة السياسية أن تعتمد على العقل وتفصلها على الحدود التي فيها شطط حتى لا تنتهي إلى فوضى مثلما حصل في تونس، حيث طغت الفوضى على الحرية، فالحرية لا تعني افعل ما شئت، وفي هذا تؤمن الفلسفة بالتناسب بين الأنا بفرديته والأنا في المجموعة.

❊❊ هل استطاعت الفلسفة التخلص من اتهامات الدين كالتضليل مثلا؟

هذا مجال فيه سجال كبير، وفيه خلاف بين أهل الفلسفة وأهل الدين، وفيه خلاف أيضا بين أهل الدين فيما بينهم وبين أهل الفلسفة فيما بينهم أيضا، اليوم ألحقت المسألة الدينية جزافا أو عن وجه حق بالمسألة الإيديولوجية، ومع الأسف ليست الإيديولوجية التنويرية والعقلانية، وبالتالي تم إقصاء المتنور سواء في الفلسفة أو في الدين. أيضا الممارسة الفلسفية قد تحيد عن عقلانيتها فتقع في العداء، بعيدا عن الخصومة الفكرية المباحة بمقاييس العقل. صحيح أن الفيلسوف بإمكانه التعاطي مع المسألة الدينية فكريا، كما يمكن أن يتعاطى رجل الدين مع المسألة الفلسفية دينيا، فهما ينتسبان إلى نفس المجتمع وإلى نفس الكون، وبالتالي مجبران على التعايش مع الآخر، وأنا لا أرى تعارضا بين الدين والفلسفة متى حل العقل المتنور بينهما.

❊❊ ولكن الفلسفة تؤمن بنسبية الحقيقة في حين يؤمن الدين بحقائق مطلقة مثل وحدانية الخالق، كيف يمكن أن يجدا توافقا بينهما؟

نحن أهل التدريس، حينما نقول للطلبة إن الحقيقة نسبية في الفلسفة، فهذا حتى نزرع فيهم الريبة الأولية، وحتى لا يعتقدوا بوجود حقائق مطلقة نهائية لا رجعة فيها، حتى من الناحية العلمية نقول إن الحقائق نسبية، وهنا النسبية ليست نقيض المطلق لكن بمعنى أنها تنسب إلى مكان وزمان وسياق معين، فأي نظرية يمكن أن تُخطأ في وقت لاحق، وهذا ليس عيبا، فيمكن أن نعتبر أمرا ما، حقيقة في وقت معين، ولكن مع مرور الزمن تظهر حقيقة أخرى، أيضا حتى في الفلسفة، حقائق مطلقة، مثل أنّنا بشر وأنّ هذا الشيء الذي نحمله هاتفا، هذا الأخير يمكن أن نستبدله بجهاز أرقى منه، يعني أن الوسيلة اللاحقة وهي حقيقة لا تنفي أن الوسيلة السابقة كانت حقيقة في زمنها، ولهذا أعيد القول إن التأكيد على نسيبة الحقيقة، من معاني الدرس الفلسفي للمتعلمين.

نعود إلى الجانب الآخر المتعلق بالحقائق الدينية، وأقول إنّ جنس القول الديني ليس كجنس القول الفلسفي، فالخطاب البشري ينقسم إلى أجناس حسبما علمنا سبينوزا في كتابه، فحينما نتحدث عن حقيقة، يستحسن من باب جودة القول أن نتحدث عنها في سياقها ويمكن أن نقاربها بحقيقة أخرى في سياق ثان لكن لا يتخذ من ذلك مفاضلة، مثل القول إن هذا النزل الذي نحن فيه يمكن له أن يستضيف عددا معينا من النزلاء وأن يقدم نوعا معينا من الخدمات، وهناك نزل آخر يمكن له أن يحتضن عددا أكبر من النزلاء وأن يقدم خدمات أفضل، أي أن بينهما مشترك يتمثل في تقديم خدمات لكن بينهما اختلاف المتمثل في صورتهما. ولهذا لو تحدثنا عن الحقيقة في الفلسفة العامة، يجب أن ننسبها إلى سياقها، وفي كل سياق توجد بعض الحقائق، وكل مختص عليه أن يتحدث داخل مجاله وأن يقول هذه حقيقة وهذا وهما، وهو ما يسمى بحدود العقل، صحيح يمكن أن يكون لدينا فضول معرفي بالنسبة للعلوم الأخرى، لكن الأصل في الأشياء هو القول السليم للفاعل داخل سياقه.

 

حاورته: لطيفة داريب