صدور ”الفكر العربي الحديث والمعاصر، نماذج نقدية”
الحضور الطاغي لفكر أركون
- 870
قدمت الباحثة نايلة أبي نادر، مؤخرا، إحدى أهم الدراسات النقدية بعنوان ”الفكر العربي الحديث والمعاصر، نماذج نقدية”، مستلهمة عملها من فكر محمد أركون النقدي، ومن ثمة المشروع الأركوني الذي يبدأ بالحفر والزحزحة، لكي ينتهي بالتجاوز والتحديث والإسهام الإبداعي في مشروع الحضارة الإنسانية.
قوام هذا المشروع تفكيك التركيبات المعرفية للعقل الديني، وعدم الاعتراف بإمكانية تأسيس نهائي ومطلق للعقل البشري، وتطبيق النقد التاريخي على التراث، واعتماد نظرة مغايرة للحقيقة، والعمل على تفكيكها ليس فقط في الإطار الديني، إنما أيضا في الإطار الفلسفي.
الدخول في الحداثة –حسبهاـ مرهون باتخاذ موقف نقدي في الفكر والسياسة والاجتماع، الأمر الذي أسس لنهضة عالمنا المعاصر وثورته المعرفية وتقدمه العلمي. لكنَ هذا لم يتحقق بعد في العالم العربي الذي يعاني من الأمية والقصور الثقافي، وضآلة مراكز الأبحاث والرقابة الصارمة على الأفكار، مما يستوجب المراجعة النقدية للواقع العربي وسلوك المنحى الحداثي في الفكر والمشاركة الإبداعية في الحضارة الإنسانية العتيدة. على هذه الخلفية الفكرية، تبني نايلة أبي نادر مقدماتها النقدية، فالباحثة التي يمكن إدراج رؤيتها الإيديولوجية في إطار النقد الثقافي للمجتمع العربي، الذي طرح على الفكر العربي أسئلته النقدية منذ سبعينيات القرن الماضي مع عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وهشام شرابي وناصيف نصار، تستأنف المسار النقدي الذي باشره هؤلاء في كتابها ”الفكر العربي الحديث والمعاصر، نماذج نقدية” عن دار التنوير، باعتبار النقد الطريق المؤدي إلى الإبداع، واختراق دائرة الرتابة، والخروج على النمطية والاجترار.
تأسيسا على هذا المنحى الفلسفي الأركوني، تناولت الباحثة تجليات الفكر النقدي عند بعض المفكرين العرب المعاصرين، مركزة على الجانب الديني دون السياسي والاجتماعي، بداية من أمين الريحاني الذي أقام العلاقة مع المطلق خارج التقليد، وأغوته مغامرة البحث عن الحقيقة، وآمن بقدراته الذهنية لكي يبني تصوره الخاص بالألوهة والكون والحقيقة والسعادة، فكيف له أن يقبل بالتشوَه الذي سيصيب الخطاب اللاهوتي من قبل رجال اللاهوت في زمنه، وهو الذي اختبر عظمة الخالق وتسامي جوهره وحبه اللامحدود، في إطار مغاير لما يشهده من انتهاكات وظلم، هل كان الريحاني يفصل بين الدين والتدين؟ وهل من أهداف واضحة المعالم لهذا النهج النقدي الذي اتبعه في التصدي للدين ورجاله؟
وإذ تتطرق المؤلفة إلى فكر عبدالله العلايلي، ترى أن من يواكب كتاباته يلفته النظر النقدي الذي طبع مجمل مؤلفاته. فقد غامر في اختراق المحرم، ورفع قلمه في وجه التقوقع والتفرد في إمساك الحقيقة، وميَز الشك والمساءلة والمراجعة الدائمة منهجه النقدي الذي اتبعه في معالجته لمفهوم الدين، إذ نظر إليه نظرة تنويرية وشرّعه على التجدد والتأقلم مع الحياة، رافضا عمليات التشويه التي تراكمت عبر التاريخ، منتقدا التحجر، متقبلا الاختلاف باعتباره خطوة معرفية واجبة وضرورية، داعيا إلى إبراز المشترك بين الأديان، شاجبا الدور الذي أداه رجال الدين في التغرير بالجمهور الساذج.
الكتاب تميَز بالجدة والأصالة، وقد أضاء في العمق على جوانب ثرية من فكرنا النقدي المعاصر، لا تزال موضع جدل وإشكال، بلغة أدبية راقية تقارب الشعر أحيانا، من دون أن يقلل ذلك من الرصانة الأكاديمية للمؤلفة ورؤيتها الفلسفية الثاقبة لأكثر إشكاليات فكرنا المعاصر تعقيدا، مما يجعل من الكتاب إضافة نوعية إلى الدراسات الفكرية النقدية العربية، تفتح مجالا واسعا للنقاش بصدد القضايا الإشكالية المعلقة في الفكر العربي منذ القرن التاسع عشر إلى الآن.