أساتذة يتحدثون إلى “المساء” عن فوز سير ذاتية بجوائز دولية:

العالم عموما والجزائر تحديدا بحاجة لهذا النوع من الأدب

العالم عموما والجزائر تحديدا بحاجة لهذا النوع من الأدب
  • 881

عرفت الروايات التي تناول فيها أصحابها سيرهم الذاتية أو جزءا من حياتهم الشخصية، تتويجا عالميا؛ مثل أعمال الكاتبة الفرنسية آني أرنو التي تحصلت على جائزة نوبل للآداب 2022، وكذا رواية “العيش بسرعة” للكاتبة الفرنسية بريجيت جيرو، التي ظفرت بجائزة غونكور 2022؛ فهل يُعتبر ذلك انتفاضة في قواعد كتابة الرواية المتعارف عليها، وحتى في شكلها المعتاد، أم أنه يمثل الرغبة في العودة إلى الإنسان؛ انشغالاته، وأحلامه، ويومياته؟... “المساء” طرحت هذه الإشكالية على الأساتذة بوداود عميّر، وحسين علام، ووائل فخر الإسلام سعادنة،  فكان هذا الموضوع.


عميّر بوداود :

إشكالية التصنيف في الأعمال الأدبية المعاصرة

قال بوداود عميّر: “بالتوازي مع بروز نوعية متفردة تغرد خارج سرب الكتابات الرائجة من خلال الكتابات المتوّجة عالميا: نوبل وغونكور، يبدأ الحديث عن سؤال التجنيس، والتغير الطارئ على الكتابة الأدبية المعاصرة. هذا النوع المستحدث من الأعمال الأدبية لم يعد يصنَّف كرواية، صار خارج التصنيف، يكتفون بتحديده كعمل أدبي Ouvrage littéraire، فهو أقرب إلى مصطلح Essai منه رواية Roman، الذي يشمل كتب السيرة الذاتية، والبيوغرافيا، والكتب الفكرية والفلسفية... مثلا، مضيفا أن أعمال الحائزة على نوبل للآداب والرواية الفائزة بغونكور هذه السنة، مصنفة ضمن Essai؛ أي أنها ليست روايات. هكذا استعصى تصنيف هذا النوع من الأعمال الأدبية، وتم طرح إشكالية التجنيس بحدة؛ فلا هي سيرة ذاتية، ولا هي رواية. وتابع أن الأعمال “الروائية” الآن، لم تعد تعتمد على الخيال، أو الخيال وحده، بل تستمد أحداثها من وقائع حقيقية، عاش مؤلفوها تجاربها؛ أعمال تشبه البوح والاعترافات الحميمة، التي قد تثير، أحيانا، بعض المشاكل العائلية، كما حدث للكاتب النرويجي كارل أوفه كناوسغارد، في كتابه الناجح عالميا “كفاحي”، وهو عمل ضخم يقع في ستة أجزاء، تُرجم إلى عدد كبير من لغات العالم، من بينها اللغة العربية، ونال العديد من الجوائز الأدبية.

كما إنها لم تعد تشتغل على اللغة كغاية، كما هو الشأن عند بعض الكتّاب العرب؛ اللغة وسيلة لا غاية. هكذا سيسهل وصول أفكارها المطروحة بفضل لغتها البسيطة، كما يسهل ترجمتها.

لنتذكر أن العديد من الأعمال الأدبية الناجحة في المنطقة العربية، فشلت نسخها المترجمة، غالبا، بسبب الإفراط في التعامل مع اللغة، أو ما يُصطلح عليه الترف اللغوي، يضيف بوداود.

واعتبر المتحدث أن هناك نمطا جديدا في الكتابة الواقعية، بدأت تتشكل ملامحه من خلال أعمال عالمية ناجحة، من حيث إنها تستمد أحداثها من وقائع حقيقية، ومن التجربة الشخصية للكاتب. كما تتميز بلغتها البسيطة، والخالية من الحشو، وأحيانا بصفحات أقل (بعض أعمال آني إرنو الفائزة بجائزة نوبل للآداب، لا تتجاوز 60 صفحة).

لماذا لغة بسيطة؟ لأنها ستتيح انتشار قراءتها من جهة، ويسهل ترجمتها إلى جميع اللغات، ومع ذلك هناك أعمال عندنا، تبدو مواكبة لهذا المنحى الجديد في الكتابة، لم ننتبه لها.

وأضاف مجددا: “لعل من بين الأعمال التي يبدو أنها تحقق هذه العناصر “أناشيد الملح، سيرة حراق” كتاب العربي رمضاني، الذي صدر عن منشورات المتوسط، سنة 2019. ورغم أنه عمله الأول والوحيد إلى حد الآن، لكنه عمل ناجح، على الأقل من خلال المتابعة الإعلامية الواسعة التي حظي بها، وذلك لأن العمل من صميم الواقع، عاش أحداثه الكاتب، من خلال تجربته كحراق”، مضيفا: “من هنا تبدو حاجتنا ماسة في مشهدنا الأدبي الجزائري، إلى هذا النوع من الأعمال الصادقة والواقعية، بعيدا عن “شطحات الخيال”، و"الترف اللغوي”، أعمال تقول آمالنا، وأحلامنا، وخيباتنا، وتعاسة هذا العالم المتأزم”.


حسين علام:

كلّ عمل روائي يتغذى من سيرة صاحبه

أشار الأستاذ علام إلى وجود فرق كبير بين البيوغرافيا، واليوميات، والسيرة الذاتية؛ لأنها أنواع نصية مختلفة؛ فالأولى يتناول فيها كاتب ما، سيرة رجل سياسي ما، أو سيرة كاتب، أو شخصية مهمة، بالكتابة على شكل قصة أو رواية، بعدما طلبت منه تلك الشخصية ذلك، أو كلّفه أحد بها، وبعدما توفرت له جميع المراجع والوثائق الضرورية في هكذا عمل، وربما كان الكاتب نفسُه هو من يسعى بنفسه لجمعها لأهميتها.

أما اليوميات فهي إنجاز الشخص لذاته، وقد يكون رجلا عاديا أو مهمّا؛ فهو من يكتب يومياته يوما بيوم، وبأسلوب مختلف عن السيرة الذاتية؛ إذ يختار ما يراه أهلا ليدوَّن؛ ما يظنه مهمّا في سيرته، فتتخللها الساعات، والدقائق، والأيام والشهور. وأضاف أن هذا النوع الأخير هو ما يهمنا، وهو السيرة الذاتية؛ إنها مدوّنة شخصية مهمة، يكتبها صاحبها بنفسه عن نفسه، وهي مختلفة عن اليوميات. وهي أنواع أيضا، منها ما هي سيرة ذاتية شخصية تجمع ما بين الحميمي والفكري والأدبي من أحداث، وقد تكون سيرة فكرية خالصة ليس فيها من الشخصي شيء، وليس بها أحداث بقدر ما فيها من تطور للأفكار والإشكالات الثقافية التي يشتغل عليها الكاتب ردحا من الزمن، مثل ما جرى في “شظايا من يوميات الإنسان” لـ “غاستون باشلار” 1970.

وتساءل: “هل الرواية السير- الذاتية التي يكتبها الروائي هي ما تميل إليه الذائقة اليوم في المنتج الروائي العالمي؟ بدليل أن الرواية السير - الذاتية أو ما يشبهها، هي التي عرفت تتويجا عالميا، مثل ما حدث مع الكاتبة الفرنسية “آني أرنو”، التي تحصلت على جائزة نوبل للآداب 2022، وكذا رواية “العيش بسرعة” للكاتبة الفرنسية “بريجيت جيرو”، التي ظفرت بجائزة غونكور 2022؟”

وأكد أن الإشكال يبدو هنا متداخلا نوعا ما؛ لأن السيرة الذاتية هي كل ما سبق التعريف به، وهي كتابة مثل كل الكتابات الروائية مع أنها عادة ما تتغذى مما هو شخصي وحميمي على العموم.

ربّما ليست الكتابة الروائية، في الحقيقة، سوى سيرة ذاتية غير معلنة، وهذا ما يحيل على سؤال آخر يجب أن يُطرح؛ إلى أي درجة يمكن أن نفرّق بين السيرة الذاتية وبين الرواية بينما كان الأبطال في الروايات ولايزالون، يتكلمون بضمير الأنا؟

ثم هناك سؤال الآخر: “ما هي درجة التمثيل والإحالة الموجودة في الرواية؟ بمعنى هل الرواية مخلصة تماما للحقيقة أو ما يدعى الواقع؟ وهل تحيل عليه بالضرورة، فيصبح بذلك أي نص هو إحالة على الواقع، وتصوير له، وتمثيل؟”.

أما الجواب عن السؤال الأول فيختلف من ثقافة إلى ثقافة أخرى؛ لأن هناك قناعة عامة منتشرة بين القراء العرب، بأن الكتابة ليست صنعة، بل تعبير عن الذات، وبالتالي فأي كتابة روائية هي سيرة ذاتية، بينما العكس تماما عند القارئ المتمرّس في العالم الغربي، مضيفا: “على الرغم مما يبدو في النص من السيرة الذاتية، من تناسب مع الحقيقة، فإنها، في الأخير، ليست سوى نوع من أنواع التخيّل. وكل عمل روائي ليس سوى سيرة متخيّلة لنماذج بشرية، قد أحكم عليها القدر قبضته، فأوقعها في ما هو مأساوي من المآزق، قد تسحقها، أو في ما هو ملهاة تستهزئ بها، أو ميلودراما تعبث بها الحياة؛ لذا نجد أن في تاريخ الرواية كله، لم يكن سوى تاريخ كتابة السيرة الذاتية مع أننا لم نكن ننتبه إلى ذلك على مستوى التصنيف؛ فلا يمكن فصل السيرة الذاتية عن النص سوى أثناء التصنيف الأكاديمي الإجرائي”، يضيف الأستاذ، مقدما مقالا بأعظم كاتب جمع بين السيرة الذاتية والكتابة، في فرنسا؛ تمكينا لأسلوبه، وتفجيرا للسائد منها، هو “لويس فرديناند سيلين” في “رحلة في أقاصي الليل”. لقد جمع، كطبيب، بين خبراته في الحياة، وحياة أبطاله، مفكّكا بنية النصوص السابقة، ليخترع طريقته الخاصة في السرد أثناء أربعينيات القرن الماضي.

وخَتم صاحب كتاب “العجائبي في الأدب”: “لا يمكن قول لا يمكن الفصل بين الكتابة الروائية والسيرة الذاتية إلا فصلا منهجيا أكاديميا بينما في الواقع كل عمل روائي يتغذى من سيرة صاحبه؛ سواء السيرة الشخصية، أو السيرة الفكرية”، مضيفا: “اليوم، لايزال الأوروبيون يتساءلون عن الإنسان في حميميته وخصوصيته في مواجهة الافتضاح الإعلامي، وغياب مناطق الخصوصية التي يكون فيها هو ذاته؛ لذا يلجأ الكتّاب إلى البحث في أماكن بعيدة من الدواخل الإنسانية؛ سعيا وراء الذاتي والتأملي”.


وائل فخر الإسلام سعادنة:

آني إرنو: كتابة الذات والالتزام مع الآخر

قال الأستاذ سعادنة إن الساحة الأدبية العالمية شهدت، مؤخرا، فوز الكاتبة الفرنسية “آني إرنو” بجائزة نوبل للآداب لسنة 2022. وقد فاجأ هذا الإعلان البعض. ولكن الكثير من النقاد استحسنوا هذا الاختيار؛ لأن “إرنو” كانت مرشحة، دوما، في العقد الأخير، في قوائم نوبل، واسمها لم يُطرح لأول مرة؛ لذا يجب إعادة النظر مليّاً في فوز الكاتبة، التي ابتكرت نوعا من الكتابة والأسلوب الجدير بالوقوف عنده كثيرا، ألا وهو كتابة السيرة الذاتية، التي تعيد طرح الأسئلة؛ من خلال دورة تخاطب بين الأدب، والواقع، وعلم الاجتماع، وهذا لربما ما سيعيد هذا النوع الأدبي إلى إبرازه أكثر؛ من خلال ما يكتبه النساء من سير ذاتية لم تُطرح على طاولة نقاش “النقد” والدراسة. وأضاف أن “آني إرنو” تُعتبر من أوفر الكتّاب الفرنسيين كتابة؛ فلديها ما يقارب ثلاثين كتابا، وصاحبة مدرسة في الكتابة الجديدة؛ فهي تيار جديد يمثل أدب ما بعد الحداثة. ولها أتباع من الكتّاب الشباب؛ حيث تعتمد “إرنو” على كتابة الذات كما هي، ومن دون تنويق أو زيادة. ففي رواياتها تكتب عن عائلتها، ومعاناتهم في الماضي، زيادة على ذلك فهي تفصّل، بإسهاب شديد، علاقاتها العاطفية، وتذكر حتى التفاصيل الصغيرة، فإرنو تقول إنها كتبت ما وقع لها بالضبط “حرفيا”، وهذا ما تَجسّد في أول أعمالها السردية “مذكرات فتاة”؛ إذ تتحدث عن أول تجربة جنسية لها، وعن حبيبها الذي تزوج سيدة أخرى في رواية “الاحتلال”. وتعرض سيرة والدها، أيضا، في أشهر أعمالها “المكان”، وتجربتها مع الإجهاض في عملها “الحدث”، وآخر أعمالها السردية رواية le jeune homme؛ حيث تطرح في الرواية أسئلة وجودية وفلسفية، إلى جانب “البوح” بعلاقتها الحميمية مع شاب في الماضي. وتابع: “كل هذا لا ينفي أنها لا تعيد صياغة الأحداث وترتيبها؛ فهي ـ على حد قولها ـ تكتب ذكرياتها منذ 1957. وتعتبر أن رواياتها هي محصّلة الوعي بالماضي، والكتابة على أنقاضه؛ لأنها تعيد فكرة “الاعتراف”، وهذا ما تعيد صياغته في رواياتها، فالذات هي المحور، والوعي بالعالم ضروري بالنسبة لها كثيرا”؛ تقول: “أكتب ذاتي من خلال الآخرين”.

كما تضفي “إرنو” على أعمالها المنجزة صدى؛ سواء صراع الطبقية، وخطوطها الإيديولوجية المتقاطعة، وتصوير نظام مديني؛ حيث الكل فيه فاعل فيه وموضوع، ومسؤول جزئيا فيه، ومقيّد جزئيا، وهذا ما يجعل حتى الأمكنة عامة؛ حيث تعتبر “آرنو” أن “الهايبر ماركت” مكان الإنسان والحياة العامة، فبالنسبة لها هو المكان النموذجي والفضاء الرمزي، فقد “انزلق” المكان من الحياة الثقافية إلى محيطها، حيث أصبح مصنع الأفكار اليومية، ورصد أهم التطورات التي يمتلكها الإنسان، فبالنسبة لـ “آرنو”، “النساء والسياسيون والصحفيون والخبراء، كل أولئك الذين لم تطأ أقدامهم أبدا هايبر ماركت، لا يعرفون الواقع الاجتماعي الفرنسي”، يضيف سعادنة.

واعتبر الأستاذ أن فوز “آني إرنو” بأهم جائزة في المشهد الثقافي العالمي، سيمهّد لحركة أدبية واسعة، وكتابة ما بعد حداثية، تعيد للكتابة السير ذاتية، مكانتها ضمن أنواع كتابة الأدب؛ لأن قوانين كثيرة فُرِضت على الكتابة الفنية والسردية، قوانين الجودة التي يمكن أن نطلق عليها، أو من خلال مصطلح “الروائع” أيضا؛ فلا يجب حصر جودة الأعمال بما يجب أن يكون مثالا للتمثيلات والنماذج التاريخية، ثم فهرستها كقانون للإبداع، وهذا ما يمكن أن يجعل فجوة كبيرة في صورة الأدب، وهنا يكمن دور النقاد ومؤرخي الأدب؛ بأن يحاولوا تجديد المفاهيم، وبَيَانِ كيف يمرّ هذا الأدب بتغيير ثقافي، وتجدّد نفسه جنبا إلى جنب نماذج أسلافه القديمة.