سيد علي إسماعيل ضيف منتدى المسرح الوطني:
المسرح بين تشدد الدين وسماحته في التجربة المصرية
- 544
نشط الأستاذ الدكتور سيد علي إسماعيل من مصر، عددا جديدا من منتدى المسرح الوطني الجزائري، مقترحا موضوع "المسرح بين تشدد الدين وسماحته"، حيث اختار مجموعة من الأمثلة، عبارة عن أحداث هامة في تاريخ المسرح المصري، وروى حادثة مفتي الأزهر العجيبة، لما أصدر فتوى التحريم سنة 1925، ثم ألغيت بفضل الممثلة فاطمة رشدي وتحت حماية ثورة شعبية.
استهل الدكتور سيد علي إسماعيل مداخلته بالقول: "غالبا ما يظن أغلب الناس أن الإسلام حرّم التمثيل، ويستشهدون بالقرآن والسنّة. جهود المجتهدين في هذا المجال من الباحثين أو من المشايخ المحليين، وهم المشايخ البعيدون عن السلطة ومناصبها!! ولكني أقصد هنا المشايخ الظاهرين ممن يمتلكون المناصب، والمتحدثين باسم السلطة؛ هل كانوا متشددين أم متسامحين مع المسرح؟!".
واسترسل في حديثه بتقديم بعض الأمثلة، التي جعلته يرتاب في الأمر، ويتعلق المثال الأول بالجمعية الخيرية الإسلامية، التي تُعد أشهر جمعية ارتبط اسمها بالمسرح المصري منذ عام 1892. فهذه الجمعية كانت تقيم حفلتها الخيرية السنوية في مسرح حديقة الأزبكية تحت رعاية الخديوي، وكانت تعرض مسرحيات وأغاني، وكان يحضرها الخديوي بنفسه. ففي عام 1895 مثلت مسرحية "صلاح الدين الأيوبي". وفي عام 1896 غنى عبده الحامولي والشيخ يوسف المنيلاوي ومحمد عثمان. وفي عام 1897 غنى المطربون السابقون مع تمثيل مسرحية "أنيس الجليس". وفي عام 1899 غنى المطربون الثلاثة أيضاً مع تمثيل مسرحية "محاسن الصدف". وفي 1900 مثلت مسرحية "حلم الملوك".
وفي 1905 عرضت مسرحية "غانية الأندلس" بطولة الشيخ سلامة حجازي. وفي عام 1912 مثلت مسرحية "عواطف البنين"... إلخ.!! ولم نسمع أن الجمعية منعت التمثيل أو الغناء أو حرمتهما، بل هي من كانت تعرضهما... والسبب إما أن مشايخ الجمعية من التنويريين!! أو أنهم مجبرون على ذلك من أجل (رعاية الخديوي) الجمعية/ والحفلة التي تدر على الجمعية أموالاً كبيرة بسبب حضور الخديوي. وأضاف الأستاذ أن في عام 1916 قامت لجنة الاتحاد السوري – وأغلبها من المسيحيين – بإقامة حفلة مسرحية بالأوبرا عام 1916، مثلت فيها مسرحية "صلاح الدين الأيوبي"، من أجل جمع الأموال؛ مساعدة منها للطلاب السوريين الدارسين في الأزهر الشريف، بعد أن انقطعت عنهم الأموال والمساعدات من أهاليهم بسبب الحرب!! وقد حضر الحفل مفتي الديار المصرية الشيخ محمد بخيت، وشيخ الأزهر الشيخ سليم البشري، الذي ناب ابنه الشيخ عبد العزيز البشري في إلقاء كلمة في هذه المناسبة.
والسؤال هنا: لماذا جاء المفتي وجاء شيخ الأزهر في هذا الاحتفال الذي يقدم التمثيل ويشاهدانه رغم أنهما لم يحضرا أي مناسبة أهم من هذه المناسبة من قبل؟ هل هذا بسبب السماحة الدينية، أم بسبب الخوف من نشوب فتنة طائفية، حيث إن عام 1916 عام ذروة الحرب العالمية الأولى، التي شاركت فيها إنجلترا المحتلة لمصر، وربما كان حضور الشيخين بأوامر من الحاكم البريطاني بعد عزل الخديوي، أو كان حضورهما نوعاً من تقديم الولاء والطاعة للحاكم الإنجليزي؟
وفي عام 1925، عندما أصدر بابا روما فتوى تحريم دخول المرأة المتبرجة أو المتهتكة الكنيسة، وهذه الفتوى لاقت ترحيباً كبيراً في مصر، فأصدر حاخام اليهود في مصر فتوى مشابهة، وكذلك قام البطريرك في مصر بإصدار هذه الفتوى!! كتبت الصحف المصرية، تحث شيخ جامع الأزهر على إصدار فتوى في أمر المرأة المسلمة المتبرجة والمتهتكة وفي المرأة المسلمة المحترفة مهنة التمثيل!! مع ملاحظة أن جميع الفتاوى السابقة لم تذكر المرأة الممثلة مطلقاً، ولكن هذا كان اجتهاد الصحف المصرية، لاسيما جريدة مصر، التي نشرت الموضوع يوم 10 ـ 7 ـ 1925، وجريدة المقطم التي نشرت الموضوع في اليوم التالي، فقام شيخ الأزهر محمد أبو الفضل بإصدار الفتوى المطلوبة في أمر المرأة المسلمة المتبرجة المتهتكة بما يعضدها من آيات وأحاديث نبوية. أما عن تمثيل المرأة المسلمة فجاء في الفتوى الآتي: "واشتغال المرأة المسلمة بمهنة التمثيل أولى بالحرمة من المتبرجة؛ لأن التمثيل تبرج وتهتك!!".
هذه الفتوى أحدثت ضجة كبيرة تناقلتها الصحف بدون مناقشتها أو التعليق عليها لعدة أسابيع، حتى تصدت لها ولشيخ الأزهر الممثلة فاطمة رشدي، فكتبت لشيخ الأزهر رسالة رداً على فتواه، وهذه الرسالة نشرتها جميع الصحف تقريباً، خصوصاً مجلة الميكروسكوب بتاريخ 6 ـ 8 ـ 1925، قالت فاطمة رشدي في بداية ردها: "يا سيدي الفاضل، ليس التمثيل تبرجاً ولا تهتكاً، إنما التمثيل مدرسة الأخلاق، ومعرض صور يرى فيه الجمهور ما هو حسن فيقبله، وما هو قبيح فيجتنبه، وهو أيضاً مجال تنمو فيه أفكار الكُتاب والفلاسفة والمصلحين، تلك الأفكار التي يغرسونها لإصلاح اعوجاج الأمم، وتعهد أخلاقها خوف الدمار، فالممثلة يا مولاي تضحي بنفسها على مذبح الأقاويل السيئة والأغراض والظنون، لتخدم أمتها، وتصلح من شأن الشعب المسكين! وهذه حقيقة لا يجب أن يجهلها إنسان، ولو أن علماءنا ومشايخنا يجاهدون لانتشال الأخلاق كما تجاهد الممثلة على المسرح، لوصلنا إلى الكمال سريعاً".
واختتمت ردها بقولها: "فأنا امرأة أعرف كرامتي وكرامة المهنة التي أشتغل فيها، ومن واجبي الدفاع عن تلك الكرامة، بل أرى من واجبي المقدس الدفاع عن هذا العمل الذي أعتقد صلاحه، كما رأى فضيلة مولانا من واجبه هدمه لأنه اعتقد فساده"!!
وفجأة انتهت الضجة وانسحب شيخ الأزهر، ولم يستطع شيخ واحد الرد على فاطمة رشدي، لسبب بسيط أن عام 1925 كان أقوى أعوام (ثورة سعد زغلول التي بدأت عام 1919)، لاسيما بعد كتابة أول دستور لمصر 1923، وبعد أن أخذت مصر حكما ذاتيا منقوصاً من الاحتلال الإنجليزي، أي أن صمت شيخ الأزهر – بل شيوخ الأزهر – كان بسبب نجاح ثورة شعبية.
والأستاذ الدكتور سيد علي إسماعيل هو أمين اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة في تخصص الدراسات المسرحية بالمجلس الأعلى للجامعات، وأستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية ـ كلية الآداب ـ جامعة حلوان، وله سبعة وثلاثين كتاباً علمياً مسرحياً منشوراً، وأكثر من ستين بحثاً علمياً محكماً منشوراً، منها "أثر الوثائق في تغيير المفاهيم"، و"نشأة مسرحة المناهج في مصر"، و"قضايا المسرح عند يعقوب لنداو"، و"الإصدارات العربية والمترجمة"، و"المسرح السعودي بين التخصص والخصوصية"، وخصوصية البحث في العروض المسرحية"، وله مشاركات في العديد من الفعاليات والندوات محكما ومحاضرا ضمن مهرجانات مسرحية خارج وداخل مصر.