"التراث الثقافي في ظل الأزمات والكوارث" بدار الصوف

تجارب ميدانية وعرض لترميم "البراني"

تجارب ميدانية وعرض لترميم "البراني"
  • 319
مريم. ن مريم. ن

احتضن الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية، نهاية الأسبوع الماضي، بدار الصوف بالقصبة السفلى، يوما دراسيا عن "التراث الثقافي إدارة المخاطر في ظل الأزمات والكوارث الطبيعية"؛ حيث تدخّل الخبراء والمختصون مقدمين تجاربهم الميدانية مع التراث المادي، خاصة ما تعلّق بالمعالم والمباني والمتاحف، وسبل حمايتها من الأخطار، التي غالبا ما يسببها الإنسان. كما نالت محاضرة "مسجد البراني" نصيب الأسد من اللقاء؛ لما يمثله من تحد للكفاءات الجزائرية؛ سواء من خلال البحث، أو الترميم.

قدّمت البروفيسور سامية شرقي أستاذة التعليم العالي ومهندسة مختصة، محاضرة مطوّلة عن "مساهمة الدراسات الفلسفية والاستراتيجية في ترميم مسجد البراني"؛ حيث أشارت إلى إمكانية وجود هذا المعلم قبل وصول العثمانيين، مؤكدة شح المصادر التاريخية في هذا الشأن، لكنها قالت من جهة أخرى، إن ما وُجد من وثائق أغلبه خاص بالأوقاف، وبالتالي بُنيت فرضية وجود هذا المعلم قبل وجود الأتراك بالجزائر، وما تم بعدها هو تشييد البراني الموجود حاليا فوق المعلم القديم، أو ربما توسعته.

لا ترميم بدون أرشيف

قالت البروفيسور شرقي المشرفة على مشروع ترميم مسجد البراني بالقصبة العليا أو ما كان يُعرف بالقصبة الجديدة، إن للوثائق والأرشيف أهمية قصوى في أيّ عملية ترميم، وهو الوحيد الذي يدل على الهيئة الأصلية للمعلم، ويجيب على تساؤلات المرمّمين خاصة من حيث التفاصيل المادية، مضيفة: "نملك المنطلقات الكرونولوجية منذ 1683. كما إن جدارية المسجد تشير إلى افتتاحه في سبتمبر 1818 من طرف حسين داي، في حين أنه أكمل مشروع البناء وليس هو المؤسس". كما أشارت إلى أن بعض الوثائق تبيّن مواد البناء التي تم استعمالها، والتي يمكن استعمالها اليوم أيضا.

وفي سياق معرضها، أكدت البروفيسور شرقي أن "مسجد البراني" اليوم، يبدو منعزلا، لكنه كان غير ذلك في الماضي؛ فقد أنشئ بحومة رمانة، التي لم تعد كائنة؛ لأن فرنسا عند دخولها قامت بهدمها لأغراض عسكرية.

وعرضت المتحدثة العديد من المخططات التي قام بها الفرنسيون؛ منها مخطط كيلون في أربعينيات القرن 20. وعرّفت المنطقة، وقالت إن المسجد كان بقرب "دار السلطان" التي تمّ تحويلها إلى أعالي القصبة بعد أن كانت في أسفلها قرب "دار عزيزة"؛ لدواع أمنية. وهناك، أيضا، مخطّط "فيلوب" الذي يقدّم، بدوره، تفاصيل أكثر. كما قالت المتحدثة إنه تمّ مؤخرا اكتشاف مخطط عسكري قديم، يوضّح المسجد ومسلكه.

وتناولت مبنى لصيقا بالمسجد، وهو المحكمة العسكرية الانكشارية أو ما يسمى بمحكمة الصبايحية. وشهد هذا المكان شقّ طريق باتجاه أسفل القصبة، حسب مخطط للمسجد والمحكمة يعود إلى سنة 1850. ولم يبق من المكان سوى الحوانيت والدكاكين. ثم قدّمت مخطط قيون لسنة 1930. وأكدت البروفيسور شرقي اختفاء معالم أخرى تابعة للمسجد؛ منها "هياكل الماء"؛ كقاعة الوضوء، والحمّام.

وتعرّضت المحاضرة لتكوينها في إيطاليا على يد الخبير المشهور "مانومي" المختص في آثار المباني، مشيرة إلى أن بعض التقنيات تساعد في المهمة، وفي تجميع المعلومات. وهنا قالت إن ما يتوفر هو أنّ بناء "البراني" على الهيئة القديمة بقي من 1653 حتى 1814، لتعاد توسعته، وبناؤه مجددا مع الدويرات في 1818. ثم المرحلة الثالثة التي كانت في 1839 مع الوجود الفرنسي، الذي حوّل البراني إلى مركز استشفائي، ثم إلى كنيسة مع ربط المسجد بالمحكمة.

وتوقفت المحاضرة عند اكتشاف فضاءات جديدة خلال أشغال الترميم بعد الاستقلال؛ منها "حائط القبلة"، لتقدّم تفاصيل كثيرة عن ترميمه؛ منها النوافذ. وقالت إن التعامل معها كان يتطلب مهارات فنية، وصيانة بعدية؛ ما جعل الأمر يقتصر على عدد محدود جدا من المنافذ، زيادة على وقوفها عند "الطحطاحة" التي ردمتها فرنسا، وعوّضتها بالسلالم؛ ما قد يعيد الطحطاحة مجددا في الترميم، كذلك الخزّان، والممر المغلق وغيرهما.

اقتراح بناء متاحف جديدة

بدورها، قدّمت الدكتورة صبرينة حماني، مختصة في علم الآثار ومحافظ رئيس، مكلّفة بمصلحة الحفظ بالمتحف العمومي الوطني البحري، محاضرة عنوانها "الحفاظ على التراث يشكل تحديا حاتميا"؛ حيث قالت إن القطع الأثرية هي أدوات حسّاسة جدا، معرّضة للخطر؛ لذلك تتطلب عناية خاصة كي لا تضيع، وتضيع معها هويتنا وذاكرتنا، متوقفة عند الكوارث الطبيعية، وهي حسبها، خطر لا يمكن التحكم فيه، لكن يمكن تفادي أخطارها من خلال التحرك المسبق. وتناولت خطر إهمال الإنسان هذه الكنوز، وكذا قلة الصيانة المستمرة، ثم التعدي على هذا التراث؛ ما يجعله يضيع يوما بعد آخر.

كما تطرقت المتحدثة لخطر مشاريع التنمية على التراث إذا لم يتم إشراك المعنيين، مثمّنة بالمناسبة، مشروع الميترو الذي حفظ ما تم اكتشافه من مواقع وآثار. ودعت إلى تصنيف وجرد التراث حتى لا يضيع، وذلك بالتنسيق بين مختلف القطاعات وكذا المجتمع المدني. كما أشارت إلى مشكل نقص التمويل، علما أنه كلما كان موقع ما في حالة مزرية، كلما تطلّب ترميمه ميزانية أكبر. وكذلك الحال مع المواقع المعزولة والبعيدة. ودعت إلى إدراج التراث في المنظومة التربوية لتحسيس جيل الغد، ولتعزيز الثقافة المتحفية، التي هي الآن محتشمة نوعا ما، مع الترويج لتراثنا من خلال الفضاء الأزرق؛ منها الزيارات الافتراضية للمواقع والمتاحف، وكذا بناء متاحف جديدة بديلة لتلك التي تعود لما قبل الاستقلال، والتي لم تعد تستوعب ما فيها.

إدارة المخاطر بنظرة استشرافية

المتدخل الثالث كان الدكتور بشور عاشور، رئيس مصلحة الأمن بالديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية، الذي قدّم عرضا حول "دور مخطط الأمن في حماية الممتلكات الثقافية، متحف تيبازة نموذجا"، توقف فيها عند تاريخ تأسيس متحف تيبازة، مع التعرض لبعض الإجراءات والتدابير الوقائية المعتمدة في الحفاظ على المجموعات المتحفية؛ منها الحفظ، والصيانة، والتأمين، وإدارة الأخطار والأزمات، والسعي إلى جمع كل المعلومات والبيانات المتعلقة بمصادر هذه الأخطار المستهدفة للمتحف.

واختتم اليوم الدراسي الأستاذ بلقاسم بلقادة، رئيس مصلحة علم الآثار الوقائي بالديوان؛ من خلال محاضرة عن "المخاطر الطبيعية التي تتعرض لها المواقع والمعالم المسيَّرة من طرف الديوان، وسبل حمايتها"، مع عرض صور لمخلّفات الكوارث؛ منها زلزال بومرداس كذا انجرافات التربة والأمطار الغزيرة والفيضانات، قائلا إن زلزال 2003 مثلا، أثر على مواقع بتقزيرت وتاقصر.

وقد تم ترميمها. كذلك زلزال بجاية في 2021، الذي أضرّ ببرج موسى من خلال التشققات، وكذلك بقوراية، وبباب البحر، وباب الفوقة، وقصبة بجاية. كما أضرّت السيول بموقع مادور بسوق أهراس. ودخلت مياه الأمطار الغزيرة متحف تيبازة في 2019. وكذلك الحال مع انجراف التربة في 2001 بقصر كاوة بعين تموشنت، ثم موقع توبل ببني صاف. وأثرت الرياح على "مسجد السيدة" بالقصبة، وكذلك "دار عزيزة"؛ ما يستدعي، حسبه، نزع اللافتات الكبيرة من على واجهاتها. ومن الأمثلة أيضا حريق تيمقاد في 2016، و"رابيدوم" بالمدية.

ودعا المتدخّل إلى وضع مخطط للمعالم الموجودة في المناطق الزلزالية، وكذا تغطية المواقع المعزولة لحمايتها من الأمطار، والاهتمام بمجاري تصريف المياه في المواقع، والتشجير حول المواقع التي تقع قبالة الرياح، مع تنقيتها من الحشائش الضارة لتفادي الحرائق، واقتراح عرض النسخ عوض القطع الأصلية لحفظها أكثر.

للإشارة، كانت المناقشة ثرية جدا بين الحضور مع طرح فكرة بناء نظرة استشرافية، تساعد على التخطيط، وبالتالي الحماية المناسبة، إضافة إلى التطرق لإدارة المخاطر بنظرة مستقبلية، تطرح كل السيناريوهات المحتملة؛ ما يستدعي المراجعة، وإشراك كل القطاعات.