موقف الفكر الغربي من الحضارة العربية الإسلامية
ثـقـافـات وحضارات... أيُّ حوار؟
- 747
(الجزء الأول)
إن الغرب المتحضر يرفض وجود منافس له. ويمكن استنباط معالم هذا الرفض غير المبرر من خلال الدعوة إلى تجديد الفكر والفقه الإسلامي؛ حيث أعدت عدة أقلام للقيام بهذه المهام، ونواد إعلامية تنفث سمها في المجتمعات العربية والإسلامية، محاولة، يلفها اليأس بنية الوصول إلى تشكيك كلي في كل ما هو إسلامي؛ بحجة أنه يولد التطرف؛ إذ جعلت المناهج التعليمية هدفا لسهام التغيير بحجة احتوائها أفكار التصادم، والدعوة إلى التطرف والتمييز.
بقلم: الدكتور محمد عدنان الأخضر بن مير (دكتوراه في الفلسفة والعلوم الدينية)
وعليه تسعى القوى الغربية إلى إحداث تغيير في منظومة القيم الأخلاقية والعقائدية للمجتمعات الإسلامية بما يتناسب ومبادئ السلم والعلمانية والحداثة المزعومة، والتعايش مع منظومة الكيان الصهيوني والسكوت عن ظلمه. وهي دعوة صريحة لمصادرة الوجود الإسلامي، وإلغاء مساهمته في الحضارة الإنسانية، بكيل له تهم ودسائس الإرهاب، والتطرف، وعدم إنصاف المرأة.
هذا الإنكار مرده أن الدين الإسلامي ليس مجرد دين كسابقيه من الأديان والشرائع، بل هو نموذج متكامل لحياة الناس، لا يختص بمنطقة جغرافية بدون غيرها، أو جنس أو عرق دون سواه، ذلك أن الإسلام دين عالمي؛ فكل من يعتنقه يتلمس التحضر والتقدم من ذاته، ومن هذا المنطلق لا يرضى الغرب أن ينافسه نموذج آخر، بافتعال الحروب والأزمات تحت مطية محاربة الإرهاب تارة، وإحلال الديمقراطية تارة أخرى، كل هذه الأفعال إنما تكون عائقا حقيقيا أمام قيام الدولة الوطنية بسبب حتمية التدخل الأجنبي.
غير أن الغرب يعترف للحضارة العربية والإسلامية بالتقدم والتحضر بدون الإقرار، ويدفع بطمس معالم هذه الحضارة، وإطفاء نورها، وتحويل وجهاتها إلى ما يخدم مصالح الغرب المادية، ولكن هيهات؛ مصداقا لقوله تعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) سورة الصف. (الآية 8)
وفي ظل رفض الغرب وجود منافس له، ما هو موقف الفكر الغربي من الحضارة العربية والإسلامية؟
إن موقف الفكر الغربي من الحضارة العربية الإسلامية سيئ للغاية، يمكن اختصاره في نظر الغرب بالإرهاب والتطرف. أما الواقع الإسلامي فهو دول متخلفة، جُعلت مكبا لمنتجات الدول الغربية؛ ما يكرس النظرة المادية دون توريد التكنولوجيا النافعة، ومطية للانقلابات وعدم الاستقرار السياسي، الذي يعوق قيام دولة وطنية سببه التدخلات الغربية، ودعم جهة ضد أخرى أو طائفة معينة ضد طائفة أخرى حد التقاتل بينهما، وبالتالي تهيئة مسار التعمير البعدي، وتغييب المسلمين عن أماكن العمل والتأثير، وليس لهم أي مساهمة في حقول المعرفة إلا إذا أناخوا لمصلحة الغرب.
ويظهر إنكار الغرب وجود الحضارة العربية والإسلامية من خلال استقراء بسيط للفكر الغربي؛ فحسب الباحث الألماني فلفريد هوفمان، عدم وجود نموذج مشخص للدولة الإسلامية من الناحية الاقتصادية والسياسية. ومبرر ذلك التدخلات الأجنبية الغربية بالاستعمار تارة، ودعم حركات تمرد داخل الدول الإسلامية تارة أخرى، بحجة التحول الديمقراطي، بالإضافة إلى صراع القوى الكبرى في المنطقة، ومحاولة سيطرتها على منابع الطاقة والمياه والغزو الثقافي، كل هذه الأسباب إنما هي حتمية حقيقية، تقف عائقا أمام إيجاد نموذج مشخص للدولة الإسلامية؛ سواء في الحياة السياسية أو الاقتصادية؛ ذلك أن معظم الدول العربية والإسلامية عند استقلالها، وجدت نفسها مكبلة باتفاقيات دولية، حالت دون قيام دولة وطنية في إطار نموذج إسلامي.
وبخصوص نعت الفكر الغربي الحضارة العربية والإسلامية بالإرهاب والتطرف، فإن هذا الخبر عار من الصحة بما كان؛ ذلك أن الإسلام لا علاقة له بالإرهاب، وأن هذا الأخير يُعد اعتداء على الحق في الحياة؛ إذ لا يجوز مس هذا الحق إلا بسلطان الشريعة، كيف والحياة من الكليات الخمس التي تكفل حمايتها الشريعة الإسلامية؛ مصداقا لقوله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا). سورة المائدة (الآية 32)
فمن غير المنطق أن توجد صلة بين الإرهاب والإسلام، ذلك أن الربط بين الإرهاب والإسلام ضرب من الجنون. والأكثر أن الإسلام يحمي الإنسان في حياته ومماته بالترفق والتكريم في التعامل مع جثمانه؛ خطب النبي، صلى الله عليه وسلم، يوما، فذكر رجلا من أصحابه “قُبض، فكُفن في كفن غير طائل، وقُبر ليلا”، فزجر النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يُقبر الرجل بالليل حتى يصلَّى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا كفن أحدكم أخاه، فليحسن كفنه”.
(الراوي جابر بن عبدالله، المحدث : مسلم،المصدر: صحيح مسلم)
وقال رسول الله ﷺ: “لا تسبّوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدّموا”. رواه البخاري
باب النهي عن الإيذاء
أما في ما يخص حقوق الإنسان فإن الإسلام سبّاق في الاهتمام بهذا الموضوع؛ لما له من أهمية في تماسك المجتمع والدولة، فشرّع للأقليات حقوقا في مختلف شؤونها الدينية؛ مصداقا لقوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تَبيّن الرشد من الغي). البقرة:256
وفي شؤون حياتها الشخصية والمدنية تحكمها شريعة الإسلام أنهم احتكموا لها؛ “فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم. وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا. وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط. إن الله يحب المقسطين). سورة المائدة (الآية42)
ومن جملة حقوق يعترف بها الإسلام ويحميها هي بين طيات دساتير جل دول العالم، مبدأ شرعية الجريمة والعقوبة التي تدخل ضمن المبدأ الدستوري المتعارف عليه عالميا؛ “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”، وهو ما يطابق قوله تعالى: (وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولا). سورة الإسراء (الآية 15)
وعليه، جلي بالغرب أن يقر بوجود الحضارة العربية والإسلامية؛ باعتبارها شريكا لا غنى عنه، وليس منافسا، يجدر درؤه من أجل تعايش سلمي مبني على تقاسم الأدوار في بناء الحضارة الإنسانية والتداول الطبيعي، واتباع سبل الحوار الحضاري؛ باعتباره سلوك الفكر الناضج، الذي يبحث عن المشاركة في بناء حضارة إنسانية بعيدا عن الصراعات والتفرد بالرأي وتحقيق صلاح المعاش والمعاد للإنسان، وحماية الكوكب من نتائج الحروب والأسلحة ذات التدمير الشامل، وإعطاء كل ذي حق حقه، بعيدا عن المغالاة والعناد ونفي العنصرية مهما كان لونها.
..يتبع