إحياء التراث في قلب عنابة
"دار الباي" نموذجًا

- 115

تقع دار الباي في قلب المدينة القديمة بعنابة، في منطقة تُعرف باسم "بلاص دارم". ويُعد هذا المكان أحد أبرز معالم المدينة التاريخية، فهو يمثل نقطة تلاقٍ للعديد من الحضارات التي مرّت على المدينة منذ العصور القديمة. وهذه الدار رمز للأصالة والتاريخ العريق، حيث تحتفظ بجماليات العمارة العثمانية، وتاريخ طويل من التفاعل بين الثقافات المختلفة التي تعاقبت على المدينة.
تعود أهمية دار الباي إلى الحقبة العثمانية عندما كانت عنابة إحدى أهم المدن التي تحت السيطرة العثمانية في شمال إفريقيا. وكانت هذه المدينة مركزا تجاريا هاما، ما جعلها مكانا للنشاط السياسي والاجتماعي. في هذه البيئة المزدهرة تم بناء العديد من المباني الرائعة التي تمثل ذروة الفن المعماري العثماني. دار الباي كانت واحدة من هذه التحف المعمارية التي أُدرجت ضمن التراث الثقافي المحلي. وتمتاز دار الباي بموقعها المميز في وسط المدينة القديمة، حيث تحيط بها الأزقة الضيقة التي تنبض بالحياة والمارة. هذا الموقع جعلها مركزا اجتماعيا مهمّا على مر العصور.
إن زائر هذه الدار سيلاحظ أولاً الواجهة الزرقاء المميزة التي تزيّنها أبواب خشبية مزخرفة، ما يعكس ذوق العثمانيين في فنون البناء والزخرفة. ومع دخولك إلى الداخل تجد نفسك في مكان يعكس أجواء العراقة، حيث الأسقف الخشبية المرتفعة، والحيطان التي تزيّنها "السينيّات" النحاسية القديمة، وتفاصيل الزخارف التي تروي قصصا عن العصور التي شهدت المكان.
ولم تقتصر قيمة دار الباي على جانبها التاريخي فقط، بل أخذت على عاتقها أيضا، مهمة إعادة إحياء التراث. ففي السنوات الأخيرة تم ترميم الدار بعناية فائقة، وفتحها أمام الزوار بشكل جديد، يعكس روح المدينة العتيقة، حيث تحولت إلى مطعم ومتحف، ما يتيح للزوار فرصة للاستمتاع بتجربة فريدة، تجمع بين التذوق والتعلم.
كما يقدم المطعم مجموعة من الأطباق التقليدية التي تتميز بها المنطقة، مثل "الكسكسي" و«الطاجين" و«المعجنات"، ما يعكس غنى المطبخ العنابي. وبالمقابل، يحرص هذا الفضاء على التعريف بتاريخ المدينة عبر مجموعة من المعروضات.
البلاصة التي تقع فيها دار الباي، أي "بلاص دارم"، أصبحت، اليوم، بمثابة مركز ثقافي واجتماعي ينبض بالحياة، فالمكان لا يقتصر على تقديم الطعام فقط، بل يشكل نقطة لقاء بين التاريخ والحياة المعاصرة. وهناك أيضا أنشطة ثقافية تقام بشكل دوري في المكان، مثل عروض موسيقى المالوف والشعبي، وهي من أهم الفنون التقليدية في الجزائر، يشارك فيها فنانون محليون يقدمون عروضا موسيقية تحيي التراث المحلي.
كما يتوافد السياح من مختلف أنحاء العالم، على هذا المعلم التاريخي، ليس، فقط، للاستمتاع بجمال المكان، بل، أيضا، لاستكشاف التاريخ العميق الذي تحمله جدران دار الباي، إذ يتميز هذا الموقع بكونه حلقة وصل بين الماضي والحاضر، حيث يمكن الزوار أن يشعروا وكأنهم يعبرون من زمن إلى آخر وهم يتجولون بين الأروقة والممرات. ويمثل هذا التنوع الثقافي والتاريخي المشترك بين العثمانيين والعرب والأوروبيين من خلال مزيج من الطرز المعماري والفنون التقليدية.
وكانت دار الباي مركزا من مراكز القرار في المدينة. ففي العهد العثماني كانت مكانا يستقبل فيه البايات والزوار الرسميين من مختلف الأطياف. أما اليوم فهي تستقبل الزوار من كل مكان، لتروي لهم عن تاريخ مدينة عنابة، وتُظهر لهم وجها آخر من وجوهها المتعددة؛ لذلك فإن زيارة دار الباي ليست مجرد رحلة إلى مكان تاريخي، بل هي رحلة عبر الزمن، تتيح للزائر اكتشاف ماضي المدينة العريق، ومعايشة ثقافتها الغنية. إن إعادة الحياة لهذا المعلم الأثري تُعد دليلًا على إصرار المجتمع العنابي على الحفاظ على تراثه الثقافي، وتقديمه للأجيال القادمة.