سعيد جاب الخير ضيف "نوافذ" الثقافية

دفاع عن شرعية الصوفية

دفاع عن شرعية الصوفية
  • القراءات: 866
مريم. ن مريم. ن
نظّمت جمعية "نوافذ" الثقافية أوّل أمس بالمتحف الوطني للفنون الجميلة بالحامة، ندوة فكرية خاصة بـ "واقع التصوّف والمرجعية الدينية في الجزائر"، نشّطها الأستاذ سعيد جاب الخير، الذي خاض في فلسفة التصوّف وعلاقته بالتاريخ وبالواقع. ودافع بشراسة عن تراث التصوّف؛ باعتباره كان ولايزال ركنا من أركان الهوية الدينية والاجتماعية، في حين أطلق النار على مذاهب وطرق أخرى، ووصفها بأنّها كانت نتاج صراع سياسي لا علاقة له بالفكر والدين.
أدار الندوة الباحث المسرحي الحبيب بوخليفة؛ حيث أشار إلى أنّ حركة التصوّف ظاهرة تاريخية انتشرت في العالم الإسلامي بما فيه المغرب العربي والجزائر. والتطرّق لهذه الظاهرة ـ حسبه ـ يجب أن يحمل نظرة فكرية موضوعية تاريخية؛ باعتبارها تمثّل اتجاها روحيا مستمدا من العقيدة الإسلامية. وأكّد الأستاذ بوخليفة أنّ الحركة الصوفية ليست مذهبا، بل تعكس ركنا من أركان الإسلام، وهو التوحيد الذي يصل إلى مقام الإحسان؛ أي "أن تعبد الله كأنّك تراه".
من جهة أخرى، أشار المتدخل إلى أنّ التصوّف موجود في كلّ الديانات والعقائد، إلاّ أنّ الإسلام اهتم أكثر بالتصوّف لأهمية العلاقة الموجودة بين الإنسان وخالقه، لذلك أصبح بمثابة منهج يُتبع لتوطيد هذه العلاقة الروحية المقدّسة، الأمر الذي يجعل هذا الإنسان ينسلخ عن السيئات ويدخل إلى عوالم الخير والإحسان.
للصوفية مشايخ كثر، وظهرت منذ القرن السابع الميلادي، وانتشرت بسرعة، ومع التاريخ دخل هذا العالم الراقي بعض الانتهازيين، خاصة في فترات الاستعمار، لكن الباحثين والصفوة حاولوا تطهير التصوّف من التلفيق والدجل. وأكّد الأستاذ بوخليفة أنّ التصوّف انتشر في المجتمعات العصرية، وذلك بسبب الفراغ الروحي والأخلاقي الذي تعانيه.
استهل الأستاذ جاب الخير محاضرته بالإشارة إلى أنّه ينطلق من دراسة الواقع والحقائق التاريخية، معتبرا أنّ من الضرورة بمكان أن يُقرأ الدين في السياق التاريخي، موضّحا: "إنّ مشكلتنا هي أنّ من يقرأون الدين عندنا يقرأونه خارج أو فوق التاريخ، وبالتالي بقي الدين بعيدا عن الواقع، وهو الأمر الذي لا يتماشى مع العقل ولا مع الدين نفسه".
وأكّد المحاضر أنّ تاريخ التصوّف ارتبط بتاريخ العلاقة بين الدين والدولة، فمثلا ظهر في الإسلام ما يُعرف بالفقيه، وهو رجل دين ارتبط بالسلطة وخطابها، والتي كانت في تلك الفترة تمثّل مؤسّسة الخلافة، وهذا الحلف المقدس أثّر على تأويل النصوص الدينية بعد وفاة الرسول الأعظم وبعد الصحابة الكرام، ومن ثم بدأ الصراع على السلطة، كما بدأ الحلف المقدّس بين الفقيه والسلطة يدخل حراك التاريخ بدءا من حروب الردة التي فسّرها المحاضر تفسيرا سياسيا، ثم بدأت تشيع الأحاديث المنسوبة إلى الرسول الأعظم، وذلك منذ السنة الأربعين للهجرة.
وأشار الأستاذ جاب الخير في معرض حديثه، إلى أنّ هؤلاء الفقهاء تكفّلوا بتفسير الكتاب والسنّة بملامح إيديولوجية الخلافة، وكلّ من يخالف ذلك من باقي الفقهاء أو من مفكّرين وفلاسفة يُعتبر زنديقا مارقا، وبالتالي يُقتل، كما حدث مثلا مع المعتزلة، الذين ذُبح مفكّروهم على منابر المساجد، ومن هنا ظهر ما يُعرف بـ "التكفير"، وهذه الكلمة تعني عدم مناقشة قرارات وأحكام الفقيه، الذي كان له كلّ الحقوق والرخص، وكان اتّباعه واجبا وطاعة عمياء، وهنا أصبح التكفير وسيلة لإقصاء كلّ من يجرؤ على الاختلاف.
وأكّد المحاضر أنّ هذا الإقصاء شمل أيضا الفلاسفة وعلماء الكلام وغيرهم، وشمل الصوفية رغم الحجج الدينية والأسانيد الشريفة التي كانت تقدّمها، والتي أصبحت بعد هذا الصراع وكباقي الاتّجاهات، تعيش على هامش السلطة الحاكمة. ووصل الأمر بالصوفية إلى تحريم على أتباعها، دخول بلاط الحكّام والسلاطين أو تسلُّم أيّة مناصب مهما علت.
وعن واقع التصوّف في الجزائر، أشار جاب الخير إلى أنّه دخلها مبكرا، وسجّل التاريخ مثلا، معارضة الصوفية للحكّام قبل وبعد العهد العثماني؛ إذ كانت ترى في الإخوة بربروس مثلا، حلفاء لتحرير الجزائر من الصليبيين، وعليهم بعدها أن يرحلوا لأنّهم ليسوا أصحاب الأرض، علما أنّ بعض مشايخ الصوفية منهم سيدي بن يوسف والي مليانة، لم يكن يرى حرجا في ذلك.
وأشار المحاضر إلى أنّ الصوفية كانت عبر التاريخ، تسدّ الفراغ الذي يتركه سقوط الدولة، كما حصل، مثلا، بعد سقوط الدولة الموحدية. وتحوّلت ظاهرة التصوّف بعدها من حالة الزهد إلى الفلسفة، ثمّ إلى الهيكلة الاجتماعية، خاصة منذ زمن سيدي عبد القادر الجيلاني ببغداد ومع الطريقة القادرية.
وفي سنة 1830، قادت الصوفية المقاومة ضدّ الغزو الفرنسي بنسبة 95 بالمائة، يؤكّد الأستاذ سعيد جاب الخير، فمثلا استشهد في معركتي اسطاوالي والعاصمة 17 ألف طالب قرآن من بلاد القبائل من الزاوية الرحمانية، وهذه الهبة أفزعت فرنسا، ففكّرت في التخلّص من وطأة الصوفية، التي كان لها وحدها إصدار قرار الجهاد والمقاومة، ففبركت شيوخا صوفية مزيَّفين.
وأطلق المحاضر عيارا ثقيلا على جمعية العلماء الجزائريين، وعلى رأسها العلاّمة عبد الحميد بن باديس، واصفا إياها بالمتسبّب في تراجع الإرث الصوفي بالجزائر على حساب المدّ الوهابي المتشدّد، ليؤكّد: "أسّس جمعية العلماء في بداية الأمر الصوفية الجزائريون تحت تسمية "جمعية علماء السنّة"، برئاسة المولود الحافظي الأزهري (الفلكي)، لكن ابن باديس أعاد التأسيس وطرد الصوفية، وتوعّدهم بالشرطة الفرنسية، ولم يستطع بعدها أن يؤسّس لمشروع مجتمع".
وأسهب المحاضر في الهجوم على الجمعية من خلال قراءة بعض الوثائق التاريخية وكتابات بعض أعضائها، بمن فيهم ابن باديس، التي خلت، حسبه، من المفهوم الراديكالي للاستقلال واستعداء فرنسا، وكذا بعض الشهادات التي قدّمها الراحل مصالي الحاج وأحمد توفيق المدني في كتابه "حياة كفاح"، تؤكّد هذا المنحى.
واعتبر المحاضر أنّ هذا الإقصاء تُجاه الصوفية استمر إلى ما بعد الاستقلال، خاصة في عهد بن بلة وهواري بومدين؛ حيث كرّست الحرب اتّجاه الصوفية، ونشرت بدلها الإيدولوجيا القومية، إلاّ أنّ هذا الضغط خفّ في عهد الشاذلي وما بعده، وتم تدريجيا رد الاعتبار للصوفية، ومع ذلك بقيت هناك ضبابية في المرجعية الدينية بالجزائر.   
وبالنسبة لتيار جمعية العلماء بعد الاستقلال فقد انقسم إلى قسمين، الأوّل مارس المعارضة، وكان فيه البشير الإبراهيمي ومصباح حويذق وسلطاني وسحنون وغيرهم، ومنه تولّد الإسلام السياسي في الجزائر. أمّا القسم الثاني فكان محالفا للسلطة من أمثال الشيخ حماني وكتو والجيلالي وبعض الشباب، كقسوم والحسني الهادي، وكلهم كرّسوا الحرب ضدّ الصوفية.
وفي الأخير، أكّد المحاضر أنه لا ينتسب لأيّ اتجاه صوفي، وأنه ليس ضدّ أيّ اتجاه أو مذهب ديني، لكنه حاول فقط تقديم قراءة علمية بعيدة عن العواطف والأفكار المسبقة.