المسرح الموريتاني يحلّ بخشبة "بشطارزي"
"ديبه".. ملحمة إنسانية بين الذاكرة والهوية

- 290

عُرضت على خشبة المسرح الوطني الجزائري "محيي الدين بشطارزي"، أوّل أمس، مسرحية "ديبة"، ضمن فعاليات الدورة الرابع عشرة لمهرجان بجاية الدولي للمسرح، بمشاركة متميّزة من المعهد الوطني للفنون بموريتانيا، الذي قدّم عملاً مسرحياً حمل الكثير من الرمزية، والعمق الإنساني.
مستوحاة من رواية الكاتب الموريتاني المختار سالم، وبإدارة إخراجية لسالي عبد الفتاح، جاءت "ديبة" كعمل مسرحي يجمع بين البُعد الشخصي والبعد الجماعي؛ حيث تتقاطع الذاكرة الفردية مع الأسئلة الكبرى المتعلقة بالهوية، والانتماء، والتحوّلات الاجتماعية التي تعصف بمجتمعاتنا.
وعلى خشبة تميّزت بسينوغرافيا بسيطة لكنّها محمّلة بالدلالات، أبدع الممثلان مراد محمد ومحمد عزيز في تجسيد شخصيتين تعيشان صراعا داخليا مريرا بين الماضي والحاضر، وبين الحلم والانكسار، وبين الرغبة في الفهم والخوف من النسيان. وتحوّلت حواراتهما المشحونة الممتزجة بالصمت أحياناً، إلى لحظات تأمّلية وجودية، تفتح المجال أمام المتفرّج للتفكّر في معنى الذات، والحرية، والذاكرة. ورغم الإيقاع الهادئ الذي ميّز العرض إلاّ أنّ التوتر الدرامي ظلّ حاضرا بقوّة، من خلال تبادل الأدوار بين الشخصيتين، وانغماسهما في حوار داخلي وخارجي، كشف هشاشة الإنسان أمام واقع اجتماعي متغيّر وعنيف في صمته.
وعلى مدار خمسين دقيقة، نجحت مسرحية "ديبه" في تجسيد عمق الأدب الموريتاني المعاصر فوق الخشبة، من خلال نصّ ينبش في الذاكرة، ويكشف آلام مجتمع يعيش على حافة التحوّل دون أن يغادر تماما ثقل الثبات. المخرج سالي عبد الفتاح قدّم عملا دراميا حديثا تتشابك فيه السيرة الفردية مع الهم الجماعي؛ حيث يغدو البطل انعكاسا لواقع مثقل بالخذلان، والتساؤلات الوجودية. وبُني النص على رموز دالة، ومحمّلة بالمعنى؛ كالناي المثقوب، وخطى التائهين في "نافلة الرحل"، لتُرسم من خلالها صورة لإنسان موريتاني يعيش في مأزق الزمن، يتأرجح بين توق دائم إلى الماضي ورغبة مكبوتة في التحرّر من ثقل الحاضر.
هذه الثنائية المتوترة بين الانتماء والانعتاق كانت المحرّك الأساسي للحبكة، ومصدر توترها الدرامي. والعمل تميّز بلغة مسرحية كثيفة، تنقل المتفرّج بين الواقعية الحادة والشاعرية العميقة عبر استخدام مزدوج للغة العربية الفصحى واللهجة الحسانية. هذا التنوّع اللغوي منح العرض نفسا محليا لا يخلو من البعد الإنساني الكوني. وفتح المجال لتشكيل لوحات مسرحية تتداخل فيها الموسيقى مع الصمت، وينسج الضوء والظلّ مشاهد تحاكي الذاكرة، وتتقاطع مع الألم.