الملتقى الدولي "الـسينما، المجتمع والأقاليم"

ديناميات الجنوب الجزائري وإعادة صياغة الهوية الثقافية

ديناميات الجنوب الجزائري وإعادة صياغة الهوية الثقافية
  • 207
مبعوثة "المساء" إلى تميمون: نوال جاوت مبعوثة "المساء" إلى تميمون: نوال جاوت

أكّدت الدكتورة مباركة بلحسن أنّ السينما والأدب غالبًا ما تقدّم الجنوب في صور نمطية وثابتة، حيث يُتوقع من السكان أن يعيشوا وفق هذه الصورة الجامدة، ما يخلق فجوة معرفية بين الواقع الاجتماعي والحركة الحقيقية للجنوب، ويغيب عن المشاهد أو القارئ ثراء الديناميات الثقافية والمقاومات المجتمعية. وعزت الأستاذة هذه الفجوة إلى النظرة المسبقة للكتّاب وصانعي السيناريو، وما يعرف بالغرائبية، والتي تنتج عنها صورة غير مطابقة للواقع.

شكّلت مداخلة الدكتورة مباركة بلحسن، الأستاذة الباحثة في الأنثروبولوجيا بجامعة وهران 2، نقطة ارتكاز للنقاش، حيث تناولت "دينامية الجنوب الجزائري وستاتيكية التمثّلات السينمائية". وأوضحت أنّ الجنوب الجزائري يمتاز بتنوّع وثراء ديناميكي في الممارسات الثقافية واللغات والعادات والطقوس وعلاقته بالموسيقى والفضاء، وهو ما يفرض على السكان أن يكونوا منتجين ومتجدّدين للبقاء على قيد الحياة.

كما تناولت بلحسن دراسة تمثيلات الجنوب في السينما الجزائرية ما بعد الاستعمارية، مستعرضة أفلامًا مثل "ريح الجنوب" لمحمد سليم رياض عن رواية عبد الحميد بن هدوقة، و"وقائع سنين الجمر" لمحمد لخضر حمينة، و"أرغو" (حلم) لعمر قاسمي. وأكدت أنّ هذه الأعمال تكشف التباينات السردية، الديناميات الثورية، الصور البصرية، والتحوّلات الداخلية وانعكاساتها على البيئة المحلية، مشدّدة على أنّ الجنوب يمتلك ديناميات خفية وتنوّعًا غنيًا غالبًا ما يغيب عن الإنتاج السينمائي والأدبي والدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية.

مداخلة الدكتورة بلحسن جاءت ضمن أشغال الملتقى الدولي "السينما، المجتمع والأقاليم"، بالمكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية بتيميمون، الذي جمع باحثين ومخرجين ومتخصصين لمناقشة التفاعلات بين السينما، الذاكرة، والفضاءات الاجتماعية والإقليمية. وقد أبرزت الجلسات أهمية دراسة السينما كأداة لفهم المجتمعات والهويات والفضاءات الإقليمية، مع التركيز على دورها في نقل الذاكرة وإعادة صياغة الحاضر واستشراف المستقبل الثقافي والاجتماعي للجزائر والمنطقة المغاربية.

افتتح الملتقى المنسق العام الدكتور مهدي سويّح كلمته الترحيبية مؤكدًا على أهمية استكشاف السينما كفضاء معرفي وفني لفهم التحولات الاجتماعية والثقافية في الجزائر والمنطقة المغاربية. وأوضح أنّ الهدف من الملتقى هو الجمع بين البحث الأكاديمي والممارسة السينمائية لتسليط الضوء على دور السينما في تشكيل الذاكرة والهويات والتفاعل مع الفضاءات ما بعد الاستعمارية.

في هذا الإطار، ركز الدكتور مراد يلس على ثلاثة محاور كبرى: الدولة، الحدود، والهامش، متتبعًا الانتقال من الخيال الاستعماري إلى السرديات الوطنية، ثم مساءلة ترسيم الهوية والاختناق الإيديولوجي داخل الفضاء، وصولًا إلى تحليل العلاقة بين المحلي والعالمي عبر مفهوم "الثورة السحرية" أو الخيال الروائي العابر للحدود. وأشار إلى أنّ السينما منذ نشأتها كانت دائمًا تحت سؤال تمثيل الفضاء، طورت مقاربات جمالية متعددة لتصوير الأمكنة، لكنها أيضًا تشكّل فاعلًا إيديولوجيًا قادرًا على إنتاج وترويج خطابات تُشرعن أو تُقوّض العلاقات الاجتماعية وآليات السيطرة. كما استعرض دور السينما في تشكيل الخيال الترابي للإمبريالية الغربية في إفريقيا وآسيا وأمريكا، وكيف استمر هذا الخيال في صوغ دلالات عميقة خلال الحقبة ما بعد الاستعمارية، سواء عبر إعادة إنتاج السرديات الكولونيالية أو مساءلتها نقديًا.

وفسّر يلس الصراع الرمزي بين المركز والهامش، وبين السلطة والفئات المستبعدة، موضحًا أنّ السينما يمكن أن تكريس الإقصاء أو إعادة توزيع الضوء على المناطق المنسية وإدماجها في الوعي الجمعي. كما استعرض الاختلاف في معالجة نفس الفضاء عبر جيلين مختلفين من المخرجين الجزائريين، مؤكدًا أنّ هذه الفوارق تعكس تحولات اجتماعية وسياسية تجعل المكان مرآة للهوية والذاكرة والسلطة.

من جهته، أكد أحمد بن سعادة أنّ السينما تمثل أداة للقوة الناعمة، وأن صناعة الأفلام العالمية، ولا سيما هوليوود، لعبت دورًا رئيسيًا في تشكيل الصور الذهنية والثقافية حول الشعوب والأمم. وأوضح أنّ هوليوود ليست مجرد مركز للترفيه، بل قوة مؤثرة تنقل قيمًا وأفكارًا حول الثقافة الغربية، نمط الحياة والسياسة إلى جمهور عالمي واسع.

تطرّق المخرج الجزائري بلقاسم حجاج إلى "الخيال الجزائري" كأداة مقاومة ثقافية وبناء للهوية خلال أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وأوضح أنّ الأدب والحكايات الشعبية والممارسات الرمزية لم تكن مجرد وسائل للتسلية أو نقل ثقافي، بل كانت أدوات للتعبير عن الحرية والهوية في زمن فقدت فيه الجزائر جزءًا من سيادتها السياسية. وأشار إلى أنّ الخيال ساهم في ترسيخ الانتماء المجتمعي عبر الحكايات الشعبية والأساطير المحلية، كما حملت الأعمال الأدبية والفنية رموزًا ورسائل مضادة للاستعمار، نقدت الظلم الاجتماعي والسياسي، ودعت إلى التضامن بين أبناء المجتمع. وأكد أنّ الخيال ساهم أيضًا في بناء هوية ثقافية متماسكة، من خلال الحفاظ على اللغة المحلية والعادات والتقاليد، لتثبيت عناصر الهوية الجزائرية وسط محاولات الطمس الاستعماري.

واختتم حجاج مداخلته بالتأكيد على أنّ الخيال أكثر من مجرد فن، بل أداة مقاومة ووعي مجتمعي ساهمت في صياغة أسس الهوية الثقافية الجزائرية التي استمرت في التطور خلال القرن العشرين.

اختتم الباحث الإيطالي أندريا برازودورو الملتقى بعرض تمثيل الأوراس في فيلم "الصين ما زالت بعيدة" (2008) لمالك بن سماعيل، موضحًا أنّ الفيلم يستكشف الذاكرة باعتبارها كاشفًا للخيال ويقدّم تأملًا حول التاريخ ونقل الماضي في الجزائر المعاصرة. وأكد أنّ بن إسماعيل يعتمد منهج "التاريخ من الأسفل" عبر الأصوات المحلية والتجارب اليومية، مجسّدًا سينما الاستماع التي تتسم بالبطء والصبر، مستعرضًا الفصول، المناظر الطبيعية، والأفعال اليومية، لإعادة إنتاج إحساس إنساني بالأسطورة الثورية واستمرارية العالم الريفي على إيقاع الذكرى.

كما يتيح الفيلم تعددية الذاكرة، حيث تتعايش طبقات متعددة من التجربة التاريخية والتفسيرية لتقديم صورة غنية ومعقدة للهوية والتاريخ المحلي، موضحًا أنّ الذاكرة الجزائرية ليست أحادية، بل تتشكل من طبقات متناقضة تتفاعل لتشكيل صورة متكاملة للواقع الاجتماعي والثقافي.يؤكد الملتقى الدولي على أنّ السينما ليست مجرد وسيلة ترفيه، بل أداة معرفية وفكرية تسمح بفهم العمق الثقافي والاجتماعي، وتعيد رسم الهوية الجماعية، خصوصًا في الجنوب الجزائري حيث الديناميات الحقيقية غالبًا ما تختفي وراء الصور النمطية. وتوضح مداخلات الباحثين والمخرجين أن السينما والأدب والخيال الثقافي يمكن أن يكونوا أدوات لإعادة إنتاج التاريخ، نقده، واستكشاف الذاكرة بطريقة معقدة ومتعددة الطبقات، تعكس ثراء الواقع الاجتماعي وتعزز الوعي بالهوية الثقافية.