يعد عمله الثالث
رواية "حرز تالا".. الأنصاري يوغل بعيدا في أساطير الطوارق
- 811
يعود الروائي عمر الأنصاري إلى صحراء الطوارق مرة أخرى، ليجلب معه مزيدا من الأساطير في حقب زمنية موغلة أكثر من تلك التي استحضرها في عمله السابق "طبيب تينبكتو"، ليعود بنا إلى الوراء وعبر الأسطورة في عمل جديد حمل اسم "حرز تالا"، الصادر عن "دار مدارك" في دبي. لم يبرح الأنصاري تينبكتو التي قدمها في عمله السابق، ليؤكد أن المدينة الأسطورية لا تزال حبلى بالكثير من الأساطير والأحاجي والعقد التي نسجها في روايته الجديدة في نحو 340 صفحة.
"حرز تالا"، يمكن تصنيفها رغم حديثها عن تأسيس مدينة تينبكتو، أنها كتبت عن أزمنة مفقودة من حياة الطوارق، فهي لا تتناول زمنا محددا، ولا تعالج قضية بعينها، قدر ما ستبحر بقارئها إلى زمن وقصة وأشخاص أسطوريين ليس لهم وجود في غير وجدان أهل الصحراء الذين اقترن عيشهم بتراث مشبع بهذه الأساطير والقصص التي استحضرها الكاتب من أزمنة غابرة. وتبدأ الرواية حينما وجد أهل "تاشدايت" (اسم حي في الصحراء) غير بعيد عن المكان الذي سيشهد ميلاد مدينة تينبكتو، أنفسهم أمام معضلة تمثلت في أن شيخهم الولي الكبير الذي يقودهم ويحميهم من أهل الخفاء لم ينجب ذكرا يرثه ويرث علمه، ليستمر في حماية القبيلة التي لا يمكن لها بطبيعة قانون الصحراء أن تستمر حياتها بدون هذا الولي الذي يحميها من شرور مردة الشياطين.
لكن الولي الذي لم ينجب غير فتاة، انتظر الناس كذلك أن تنجب له حفيدا ذكرا، لربما كان هو من سيرثه، خاصة أن ورثة الملك في النظام الصحراوي لا بد أن يكونوا قد أتوا من خلال نظام أمومي (ابن بنت أو ابن أخت) ما لم يحدث بعد أن أنجبت ابنة الولي (أمينتو) فتاة اسماها الجد "تالا". مما أوقع الناس في حيرة وامتعاض عظيمين، في وقت لم يكن الشيخ ولا أهل بيته بالمهتمين بما أشغل الناس، ذلك حينما أخذت الفتاة التي تربت عند جديها تكبر شيئا فشيئا في كنف الجد الذي أخذ يعلمها منذ نعومة أظافرها علومه وأسراره، مما ضاعف من استغراب الناس في أن يكون الشيخ يريد توريث فتاة علمه. ورغم أن للشيخ ابن أخت يمكنه أن يرث معارفه، إلا أن القصة مضت في غير ذلك، ربما لشيء في نفس الشيخ "مسالح" لم يرد أن يفصح عنه لأحد.
وتبدأ ذروة القصة حينما يتدخل "الملح"، الأكسير الأول في الصحراء ودواء العلل وطارد الجن، الذي ظهرت أهميته منذ بداية القصة، ذلك أن الشيخ الولي لم يكن يقدم على عمل يرد به أهل الخفاء عن الناس، ولا مداواة أحد، بغير أن يكون الملح عنصرا أساسيا في معالجة القضية التي يهم بمعالجتها، لتبقى القبيلة في صراع مستمر ونشاط دائب في جلب الملح وتوفيره بأي ثمن لحماية نفسها. وتوضح القصة بجلاء القانون الذي فرض ذلك، وهو كون الصحراء سكن للجن في الأصل، وموطنا لهم، فيما الناس دخلاء عليهم، وهو ما حتم على أية قبيلة عزمت سكنى الصحراء أن يتوفر لديها الملح لرد شرور الشياطين، وفوق ذلك ولي لا يشق غبار يمكنه بأحرازه استخدام ذلك الملح.
ولا تكاد الرواية تنتصف حتى يرحل الولي مسالح عن الدنيا، في رحيل مرير على أهل حيه، خاصة أن موته تزامن مع نضوب آخر مناجم كانت تجلب منها الملح. ليسقط في يد الناس وحفيدته تالا، حيث تقول الأسطورة المتعارف عليها بأنه بذهاب الولي تذهب قيمة كل الأحراز التي صنعها ليحمي بها الناس، ومنها تلك التي أحاط بها مسالح حيه لحمايته من أهل الخفاء الذين بدأوا يتسلطون على الناس بعد موته. وهنا تبدأ ملحمة جلب الملح من ممالح بعيدة مسيرة شهر، أخبر بها الشيخ حفيدته، حيث ستبدأ القبيلة في الاجتماع لمناقشة سبل تحقيق هذا المستحيل وسط انقسام وامتعاض من البعض في اتباع فتاة لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها بعد. لكن وقبل أن تبدأ الرحلة المستحيلة، أحال الشياطين حياة الناس إلى جحيم لا يطاق عبر صب غضبهم عليهم بشتى الأشكال، مما أقنع الناس في النهاية بوجوب الانتقال إلى مكان آخر يجدون فيه بعض الأمان إلى أن يجلبوا الملح مع الفتاة التي ستحميهم به.
وهنا تبدأ مرحلة درامية بالغة التعقيد، بعد أن يستقر الناس في مكانهم الذي كان نواة لتأسيس مدينة تينبكتو. وقال الأنصاري في مقابلة صحفية بأن عمله هو تكريس لأدب الصحراء وبيئته التي تزخر بإنسان فذ عاشق للتحديات ومتفوق على الطبيعة ربما، بعد أن أهلته الصحراء لخوض شتى المعارك التي تبقيه حيا ومتفوقا وسط طبيعة الصحراء القاسية. العمل يعد الثالث للصحفي عمر الأنصاري، الباحث في شؤون الطوارق بعد كتابيه "طبيب تينبكتو" و"الرجال الزرق".