"سؤال الذات والذاكرة في أدب المهجر"
سياقات تاريخية وتراكم محلي قدم للإبداع خاماته
- 83
مريم. ن
احتضن فضاء روح البناف "فرانز فانون"، أوّل أمس، ندوة بعنوان "سؤال الذات والذاكرة في أدب المهجر" فتح في طرحه مدى تحوّل المنفى إلى أرض إبداع يطرح قضايا الفكر والثقافة والتراث وآفاق أخرى مفتوحة على الذاكرة كما على المستقبل بعيدا عن القيود والخطابات وقريبا من الوطن الذي يبقى راسخا مهما بعدت المسافات.
استهل الكاتب عبد القادر جمعي تدخّله بالوقوف عند ذكرياته أي حين كان في 14 سنة من العمر حينما احتفل بيوم 5 جويلية 1962 وكان أجمل يوم في حياته لن ينساه أبدا، وفي سن 47 انتقل للعيش في فرنسا بعدما كان مشواره ثريا في الجزائر، حيث اشتغل صحافيا في العديد من الصحف الوطنية منها "المجاهد" وفي مجلات ثقافية وفي وكالة الأنباء الجزائرية، كما أصدر روايتين سنتي 86 و88 إضافة لـ25 نصا وروايات أخرى، وقد أشرف على تأطير ورشات كتابة للشباب واليافعين معتبرا موهبة الكتابة هو وقود الحياة.
عن علاقة الأدب بالتاريخ والذاكرة
أكّد المتحدث أنّه كتب عن العمال الجزائريين المهاجرين وتناول يومياتهم وظروفهم وحنينهم للأهل والوطن، وكتب أيضا في هذا المنحى عن علاقة التاريخ والأدب موظّفا مظاهرات 17 أكتوبر 1961مثلا، قائلا إنّه أراد إنجاز شيء ما تماما كالذي ينجزه الحرفي، كما قال إنّه روائي يكتب القصص والحكايات والوقائع الراهنة ذات البعد الإنساني بعيدا عن أيّ خطاب سياسي مباشر، مفضّلا في كلّ ذلك البساطة والتفاصيل مع البحث عن الأجواء المرافقة لما يكتبه.المتحدّث سافر إلى ثلاثين دولة عبر العالم ونظم فيها ورشات كتابة، واحتك بمختلف التجارب الإنسانية المختلفة.
"أنا متنقّل ولست منفيا"
أما الكاتب الصحفي والروائي أرزقي مترف فهو يقيم بفرنسا ويقول مستعرضا بالمناسبة المنفى الداخلي للإنسان حتى وهو في وطنه الأم وأضاف "لم نذهب للضفة الأخرى حتى مرّ نصف عمرنا أو أكثر في وطننا الأم الجزائر، رغم أنّ الانفصال كان صادما والضغط الذي هو أساس الإبداع كان محرّكا آخر بين اللغات الأم والفرنسية والماضي والحاضر".
أشار المتحدّث إلى أنّ سؤال "من أنا؟" يطرح نفسه في المنفى، هذا السؤال الذي لم يكن يطرح في الوطن الأم الجزائر، ثم أضاف أنه يعيش في فرنسا منذ ثلاثين سنة ويكتب فيها ولم يحس أنّ البعد عن الجزائر قطيعة إذ أنّ التواصل مع الوطن والأهل والأصدقاء والأحداث ظلّ موجودا، كما أنّه عندما يكتب في الخارج يوظّف رصيده من الذكريات في الجزائر وأعطى مثالا توضيحيا كأن يكتب عن تحضير طبق الكسكسي في الجزائر يوم الجمعة وهو موضوع عادي قد لا يكتبه في الجزائر لكنّه مطلوب في الضفة الأخرى، لأنّه يقدّم صورة عن العادات والتقاليد والثقافة وغيرها، وبالتالي أوضح أنّ المنفى يعيننا على اكتشاف ما عشناه مستحضرا الكاتب الراحل مالك علولة حينما التقاه في باريس ذات مرة وقال له "أنتم أقرب للمنبع عكسنا نحن أبعد عن الوطن، لكن نترك البلاد ولا تتركنا".
الكتابة في المنفى تعني الوفاء للوطن
أكّد أرزقي مترف أنّ الكتابة في المنفى تعني الوفاء للوطن، مضيفا أنّ اشتغاله كصحفي حينما كان بالجزائر وانشغاله بالعمل اليومي لم يترك له الوقت لكنّه حينما هاجر وجد متّسعا من الوقت للكتابة العميقة والإبداع خارج الصحافة ليتذكّر مقولة الراحل محمد ديب "المهجر ليس غيابا، لكنّه شكل من الحضور"، أما الراحلة آسيا جبار فقد وصفت الكتابة في أرض المهجر بالكتابة في بيت آخر.
كما أوضح المتحدّث أنّ الكتابة ليست نضالا ولا حنينا صرفا بل هي الوطن والذاكرة والمستقبل وهي أيضا تعني المقاومة وعدم الذوبان في الآخر ولا معنى لها إذا كانت انطلاقتها من السكون والهدوء بل تزهر عند الضغط الحاصل من الأمكنة والأزمنة والذاكرة واللغة ليكون المتن أقوى وأصدق، علما أنّه قال إنّ تكوينه كان بالفرنسية التي يكتب بها ولم يتعلّم سواها وأنّه عاجز عن الكتابة بلغته الأم الأمازيغية وعاجز كذلك بالعربية التي يتحدّثها من خلال تعلّمه إياها حين عاش بالعاصمة.
جسور ربطت بين الثقافات والشعوب
بدوره، قدّم الأستاذ إبراهيم بن يوسف القادم من الكيبك بكندا تجربة رائدة في الكتابة، مستهلا حديثه عن الجسور الكبرى التي يعشقها باعتباره مهندسا معماريا وكيف أنّها تربط بين الضفاف وتوفّر الممرات وتزيل العوائق كذلك الحال بالنسبة للجسور الثقافية التي تربط بين الشعوب والثقافات. قال المتحدث إنّه بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، عاشت الجالية المسلمة في الغرب التضييق والظلم وكان لذلك وقع على السياسة فسنّت قوانين جائرة بحجة الحماية والأمن، مضيفا "رأيت في تنديد الجالية الإسلامية بكندا مجرّد خطاب لاشتغل على مبادرة أكثر نجاعة وهي عبارة عن معرض للكتاب المهاجرين بلغ عددهم الـ89 وأغلبهم شباب ويكتبون بالفرنسية فجاءت بثمار حسنة وصحّحت الصورة"، كما أشار إلى أنّ أدب المهجر له سياقات تاريخية ذكر بعضها منذ القرن الـ19 وحتى الحربين العالميتين والحروب الأهلية، ومع العولمة تحرّر العالم، حسبه، من القيود وظهر المهاجر المثّقف الذي وجد متنفّسا في الكتابة من جهة وفي الاستكشاف من جهة أخرى، وهنا طغت المفارقات بين الحنين للوطن والتشبّث بالوسط الجديد، فعاش الكاتب بهويات متعدّدة يتقمّصها أحيانا ليتحوّل لهوية مركبة. أمّا وقع الذاكرة فهو قويّ في أدب المهجر لتخفيف ألم البعد، معتبرا أنّ كلّ هجرة هي منفى تسبّب الألم وبالتالي فإنّ العودة للذكريات هو عودة للمحلية والخصوصية.
الأدب فقد التزامه ففقد سلطته
في تدخّلها، أشارت الكاتبة والمترجمة آمال بوشارب إلى أنّ الأدب اليوم لم يعد له سلطة لأنّه لم يعد ملتزما أي أنّ الكاتب نفسه لم يعد ملتزما، ولم يعد يشكّل وعيا، وهذا التراجع بدأ من الـ90 مع سقوط المعسكر الشرقي وظهور النيولبيرالية، وبالتالي لم تعد هناك سرديات كبرى مثلما كان الحال مثلا عندنا مع بن هدوقة الذي يمثّل المثقف العضوي يشعر ويكتب قضايا وطنه ومجتمعه، مضيفة أنّ كاتب اليوم يقدّم "أناه" هو الصغيرة وليست القضايا الكبرى وهنا تتجسّد إيديولوجيا النيو- ليبيرالية المبنية على الفردانية فاستقال الكتاب من صناعة الوعي وأصبح الكاتب هو ذلك النجم الجالس في برجه العاجي.
قالت بوشارب إنّ الكتابة هي حوار مع الماضي ومع التاريخ ونحن نكتب الذاكرة لنتجاوز الفردانية الضيّقة المحدودة، فهذه الأخيرة قد تنتهي مع عمر الإنسان الفرد بينما الذاكرة الجماعية تعيش لأجيال، معتبرة الجزائر منجما للذهب فيها ما يكتب حتى تلك الحكايات والأساطير الشعبية لأنّها تمثّل خزّانا جمعيا وحين تصديرها للخارج تصبح جزءا من ذاكرة العالم.
أكّدت المتحّدثة مرة أخرى أنّ الالتزام يتعدى لحظة الفن العابرة، كما أنّه لابدّ من الإفلات من المركز الذي يمثّل الغرب إلى الهامش الذي هو نحن في الجنوب فالإبداع عندنا مقاومة للإفلات، ما يفرض علينا كي نقدّم للغرب ما يطلبه وهو أنّنا الهامش الذي يعجّ بالصراعات والكبت وقمع المرأة والجمود وهي كليشيهات تطلبها دور النشر في الغرب من مبدعينا كي ينشروا ويشتهروا لأنّهم قالوا إنّ المركز حضارة والأطراف همج.