ندوة "نورية" أيقونة المسرح الجزائري
شهادات حية وتوثيق لمسيرة فنية تجاوزت ستة عقود

- 311

شهدت قاعة "توفيق ميميش" بالمسرح الجهوي "عز الدين مجوبي" في ولاية عنابة، انعقاد ندوة تكريمية للفنانة الكبيرة نورية قزدرلي، ضمن تواصل مجريات الدورة السابعة للمهرجان الثقافي الوطني للإنتاج المسرحي النسوي. جاءت هذه الندوة، التي حملت عنوان "الفنانة نورية، فقيدة المسرح الجزائري: شهادات حية وتوثيق لمسيرة تزيد عن ستين عاما"، كتحية وفاء وتقدير لإحدى أهم الشخصيات المسرحية في الجزائر، والتي كرس المهرجان نسخته الحالية للاحتفاء بإرثها الفني.
عرفت الندوة، مشاركة نخبة من الفنانين الأكاديميين والمسرحيين، الذين عايشوا الراحلة نورية قزدرلي، حيث أدارت الجلسة الدكتورة حسينة بوشيخ، بمرافقة الأكاديمي إبراهيم نوال والممثل عبد الحميد رابية، اللذين قدما شهادات مؤثرة حول المسيرة الفنية الحافلة للفنانة الراحلة. كما حضر اللقاء عدد كبير من أصدقائها، ورفاق دربها، إلى جانب مجموعة من الفنانين الشباب والممثلين المشاركين في العروض المسرحية المتنافسة ضمن المهرجان.
في مستهل الجلسة، قدم نوال الأستاذ بالمعهد العالي لمهن فنون العرض، قراءة تاريخية لمسيرة نورية قزدرلي، مسلطا الضوء على أبرز محطاتها الفنية، حيث استذكرت بداياتها الأولى في المسرح خلال الأربعينيات، قبل اندلاع الثورة الجزائرية سنة 1954. كما تحدثت عن مشاركاتها الواسعة على خشبات المسارح داخل الجزائر وخارجها، حيث كانت من أوائل الممثلات اللواتي رفعن العلم الجزائري في المحافل الدولية، من بينها مسرح برلين في ألمانيا الغربية.
وفقا للمتحدث، لم تكن نورية قزدرلي تتخيل يومًا أنها ستصبح نجمة مسرحية خالدة في الذاكرة الجزائرية. فقد نشأت في أسرة بسيطة، ولم يكن المسرح جزءًا من أحلامها، حتى التقت بالفنان مصطفى قزدرلي، الذي أصبح شريك حياتها ومسيرتها الفنية. كان لقاؤهما الأول خلال جولة فنية بمدينة قسنطينة سنة 1945، حيث أسسا معًا فرقة الهلال الجزائري، التي كانت نقطة انطلاقها نحو عالم المسرح.
وخلال أكثر من ستة عقود من العطاء، شاركت نورية في أكثر من 200 عرض مسرحي، جسدت خلالها شخصيات نسائية خالدة، مستلهمة من الواقع الجزائري ومعبرة عن هموم المجتمع. كانت أبرز أعمالها المسرحية تشمل "خالد أو شمشون" سنة 1946، و«بيت برناردا ألبا" التي أعدها المسرحي علال المحب سنة 1989، وهما مسرحيتان شكلتا بدايتها ونهاية مشوارها الفني الحافل.
وأثار الأكاديمي إبراهيم نوال خلال مداخلته قضية غياب أرشيف وطني يوثق لتاريخ المسرح الجزائري، معتبرًا أن الحفاظ على الذاكرة المسرحية مسؤولية جماعية، إذ قال "واجبنا جميعًا أن نحفظ ونصون تاريخ المسرح في الجزائر، سواء كنا فنانين، باحثين أو مواطنين عاديين. علينا أن نعمل معًا لتوثيق هذا الإرث الغني ونقله للأجيال القادمة".
بدوره، استعرض الممثل عبد الحميد رابية بعض ذكرياته مع الراحلة، مشددا على أهمية جمع وتوثيق القصص والتجارب المسرحية التي عاشها جيل الرواد. وأكد أنه يكرس جهوده في تدوين تاريخ المسرح الجزائري والممثلين الجزائريين، حتى وإن اضطر لكتابته بخط اليد، وهو ما عرضه على الحاضرين خلال الجلسة.
واختُتمت الندوة بتأكيد المشاركين على أهمية مواصلة العمل على توثيق إرث نورية قزدرلي، التي لم تكن مجرد ممثلة، بل رمزا للفن الجزائري في أرقى صوره. ستبقى ذكراها حاضرة في وجدان عُشاق المسرح، وستظل أعمالها قدوة للأجيال القادمة، شاهدة على مسيرة امرأة صنعت تاريخ المسرح الجزائري بحب، شغف، وإصرار لا ينضب.
"وجوه وأحذية" لتعاونية "ريان" الثقافية
رحلة امرأة في دروب الذاكرة والمعاناة
افتتحت مسرحية "وجوه وأحذية"، من إنتاج جمعية "ريان" الثقافية من جيجل، المنافسة الرسمية للدورة السابعة من المهرجان الثقافي الوطني للإنتاج المسرحي النسوي بعنابة، أول أمس الجمعة، وشكل العرض تجربة مسرحية غنية بالعمق العاطفي، حيث استعرضت المونودراما، بحميمية، رحلة حياة امرأة غارقة في الوحدة والتحديات، تسعى لفهم ذاتها والتحرر من قيود الماضي.
المسرحية من تأليف زليخة بونار وإخراج مختار زعيمن، فيما أدت الدور الرئيسي الممثلة زينب بوعرة في عرض استمر 60 دقيقة. تجسد البطلة شخصية امرأة تعيش في عزلة تامة، بلا دعم عائلي، وتستعيد خلال العرض محطات مختلفة من حياتها عبر سلسلة من المشاهد المتتابعة، مجسدة مراحل متعددة من ماضيها.
تحتل الطفولة موقعا مركزيا في العمل، حيث تجسد البطلة شخصية طفلة صغيرة، مرحة وضعيفة في الوقت نفسه، تستعيد ذكريات مليئة بالمعاناة، بين سوء المعاملة والتنمر المدرسي. تتنقل بين شخصيات مختلفة، لترسم ملامح هوية مبعثرة، تحاول من خلالها إعادة بناء ذاتها وفهم المسار الذي أوصلها إلى حالتها الراهنة.
اعتمدت الرؤية الإخراجية على توظيف الرموز البصرية المكثفة، حيث شكل إطار ذهبي مثبت في منتصف الخشبة عنصرا بصريا دالًا، أشبه بقيد يحاصر الشخصية داخل عالمها النفسي، ما يعكس صعوبة تحررها من أثقال الماضي. كما ظهر شخص مقنع بين الفينة والأخرى، مانحا العرض بُعدا غامضا، إذ يمكن تفسير وجوده كتجسيد للمجتمع، أو لنظرة الآخرين، أو حتى لصراعاتها الداخلية.
في الخلفية، ظهر جسد مقنع ساكن، أشبه بدمية مهجورة، يرمز إلى ثقل الذكريات واستمرار الصدمات غير المحلولة. وفي لحظات معينة، يتجسد هذا الجسد كرمز للحماية التي تبحث عنها المرأة، وهي تواجه مصيرها وحيدة. يقدم "وجوه وأحذية" تجربة مسرحية تمزج بين الألم والمقاومة، حيث يرسم مسارا داخليا، يأخذ المشاهد في رحلة لمتابعة صراعات شخصية، تبحث عن الخلاص والفهم. إنه عرض يضع الجمهور أمام مرآة الذات، ويطرح تساؤلات عميقة حول تأثير الماضي على الحاضر، وحول إمكانية تجاوز الجراح والانطلاق نحو أفق جديد. عن العمل، يرى مختار زعيمن، أن إخراج عمل مسرحي يتناول معاناة المرأة في المجتمع يجب أن يرتكز على نص يحمل بُعدًا نسويا عميقا، تؤديه ممثلة قادرة على تجسيد هذا الواقع بصدق. لكنه يشير أيضًا إلى أن الألم الذي تحمله الطفولة ليس مقصورا على المرأة وحدها، بل هو تجربة إنسانية مشتركة بين الرجال والنساء.
قال زعيمن "كل إنسان عاش طفولته، سواء كان رجلًا أو امرأة. الطفولة قد تترك أثرا عميقا، وقد تفتح جراحا تبقى بحاجة إلى التطهير والشفاء. لا ينبغي أن يبقى الإنسان أسيرا لماضٍ مؤلم، لأن ذلك قد يقوده إلى مسارات مدمرة"، وأضاف "في هذه المسرحية، هناك تأمل عميق في تأثير تضحيات الوالدين، وأيضًا في ضرورة الفردية من أجل البقاء. فخلف النص، تكمن رسالة فلسفية تتساءل عن جوهر الإنسان ذاته".
من جهتها، تعد الممثلة زينب بوعرة حالة خاصة في المشهد المسرحي بجيجل، إذ تصف نفسها بكونها "الممثلة الوحيدة في الولاية منذ عام 2011". وتوضح أن كثيرا من النساء في المنطقة لديهن شغف بالمسرح، لكن العادات والتقاليد تحول دون انخراطهن في هذا المجال. وقالت "لولا أنني متزوجة من المخرج مختار زعيمن، لما تمكنت من ممارسة شغفي بالمسرح". وتشير إلى أن هذا العرض كان تحديًا حقيقيًا لها، حيث تم تحضيره في ظرف شهر واحد فقط، ليُقدَّم في أيام المونودراما صونيا مكيو بولاية جيجل، قبل أن يتم اختياره ضمن المنافسة الرسمية للمهرجان.
رغم صعوبة التجربة، تؤكد بوعرة أنها عاشت دورها بكل جوارحها، وأن المسرح يشكل جزءا أساسيا من حياتها، تماما كما هو الحال مع كل من يحبون هذا الفن ويدافعون عنه.