رحيل سيدة الشاشة فريدة صابونجي
صورة أرستقراطية تختفي وراءها أصالة “بنت لبلاد”

- 662

وري بمقبرة العالية، عصر أمس، جثمان الفنانة القديرة السيدة فريدة صابونجي، بحضور أسرتها الفنية. وهي التي ترجلت صباح أمس السبت، عن عمر ناهز الـ92 سنة، بعد معاناة مع المرض، تاركة وراءها رصيدا فنيا ثريا يعد من الروائع، كما تبقى صورتها عالقة عند جمهورها الذي أقنعته بأدوارها، ورسخت عنده قيمة الفنان الجزائري وارتباطه بقضايا وثقافة شعبه.
ملكت الفنانة القديرة فريدة صابونجي الجمهور الجزائري بكل أجياله وأطيافه، رغم غيابها لسنوات عن الشاشة، وظلت السيدة التي تملك في مشوارها الكثير من الروائع، كما كانت شاهدا حيا على مراحل هامة من مسيرة الفن الجزائري، وعملها مع العمالقة، وفوق كل ذلك، فهي الإنسانة الرقيقة والعاصمية الحضرية صاحبة الشموخ الجزائري الذي لا يقهر.
تعد الفنانة الراحلة فريدة صابونجي، المولودة في 10 أوت 1930، من بين رائدات الفن المسرحي والسينمائي في الجزائر، حيث بدأت مشوارها الفني في سن مبكرة (13 سنة)، من خلال التمثيل الإذاعي، وكانت قبلها تمثل كطفلة في الحصة الصبيانية الإذاعية للراحل رضا فلكي.
قدمت الراحلة أعمالا مميزة في المسرح الكلاسيكي في الخمسينات من القرن الماضي، إلى جانب ممثلين كبار، على غرار محيي الدين بشطارزي ورويشد ومحمد التوري ونورية وجعفر باك وغيرهم، كما قدمت فيما بعد أعمالا كثيرة للتلفزيون، من أفلام ومسلسلات لقيت إقبالا كبيرا لدى المشاهدين، ولعل من أبرز الأعمال الراسخة، هناك “خذ ما عطاك الله” للحاج رحيم، و"المصير” مع جمال فزاز.
بالنسبة للمسرح، فقد كان بيتها الأول واشتهر بأدوارها فيه منذ سنة 1947، لتقدم العديد من الأدوار، على غرار “أوتيلو”، “أوتيفون”، “تارتيف”، “قناع الجحيم”، “الدنجوان”، وعشرات الأعمال المسرحية الكلاسيكية، وكانت ملتزمة بالبحث لتأدية أدوارها، وقالت ذات مرة، إنها أدت شخصية أسطورية إسبانية، جعلتها تسافر بإمكانياتها الخاصة إلى إسبانيا، لاكتشاف المزيد عن هذه الأسطورة في الأدب الإسباني.
برزت الراحلة أيضا في مسلسل “المصير”، بملامحها القاسية والأرستقراطية، وبلهجتها العاصمية القديمة، علما أن هذا الدور أسند لها سنة 1985 من المخرج الكبير جمال فزاز، رحمه الله، واحتاج الدور الموكل إليها إلى الكثير من الغطرسة والصرامة، فأدته بامتياز وأحبه الجمهور كثيرا، وبات يسأل عن هذا النوع من المسلسلات، وهذا ما اعتبرته حينها شرفا لها وتتويجا من جمهورها الجزائري والمغاربي.
كانت الراحلة تقول “أنا أحب السيناريوهات الجيدة التي تخدم الأسرة الجزائرية، والتي تستقبلها بفرح وسرور، فهذا الجانب هام جدا بالنسبة لي، فأنا ابنة عائلة وأعرف ما تحبه العائلة، حيث يتسنى لكل الأفراد الجلوس معا والاستمتاع بالعمل المقدم دون خوف”.
كانت صابونجي تمد يدها لجيل الشباب وترعاه وتقدم له ما تملكه من خبرة، وتعتبر الكثير من الوجوه الجديدة “رائعة”، وتوصي بأن لا يكون الفن مجرد وسيلة للكسب.
عاشت الفنانة صابونجي، كأبناء جيلها، ويلات الاستعمار، مما رسخ فيها حب الوطن والانحياز بشكل تام للجزائريين، فقدمت لهم تمثيليات اجتماعية، لكنها تحمل معانٍ وطنية، وتغرس الوعي لمواجهة هذا المستعمر الذي ظل يعمل المستحيل بكل وسائله الجهنمية، كي يمحو من ذاكرة الجزائريين هويتهم. وكانت في كل مرة، تحكي بفخر واعتزاز عن هذا التاريخ، وتعتز بتضحيات أبناء جيلها ومن سبقهم، وتقول إن الجزائريين كانوا، رغم حالهم البائس، يملكون عزة النفس ويعيشون يومياتهم بتضامن، ولا يفرطون في ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم، كما كانوا مولعين بالفن، ليس فقط في المدن الكبرى، بل وفي كل أرجاء الجزائر، حيث كانت هي وزملاؤها يستقبلون بحفاوة خلال جولاتهم، ويتابع الجمهور عروضهم.
ارتبطت صابونجي أيضا بحبيبتها القصبة، لأن فيها الأصل و"ريحة لبلاد”، ولأنها كانت زمن الاستعمار، رمزا للجزائر الأصيلة التي كانت تختلف تماما عن المدينة الأوروبية، لذلك عندما طلبت إدارة التلفزيون في زمن الاستعمار من صابونجي، أن تعوض مذيعة ربط فرنسية غابت عن البث، اشترطت هذه الفنانة الجزائرية أن توجه تحية وإهداء لأبناء القصبة، وكان لها ما أرادت، وبذلك كانت أول مذيعة في تاريخ الجزائر. ظلت السيدة صابونجي وفية لزملائها، تتحدث عن ذكرياتها معهم وتثمن مسارهم، كما لم تقطع علاقاتها الاجتماعية وزياراتها لزميلاتها، خاصة منهن نورية وفتيحة بربار وشافية بوذراع. بعد الاستقلال، بدأت صابونجي مشوارا آخر أكثر احترافية، سواء في السينما والتلفزيون، أو في المسرح، وكانت حاضرة في الكثير من الروائع التي لم تنطفئ شمعتها إلى اليوم، ولا زالت مطلوبة بقوة من الجمهور الجزائري والمغاربي.
عاشت الفنانة في ذاكرة الجزائريين بصورة المرأة المتسلطة والأرستوقراطية، كما أدت بنفس التمكن، دور المرأة “المغبونة” والمغلوبة على أمرها، كما في فيلم “زوجة لابني”، وهو ما يثبت إمكانياتها في التمثيل من دون تكلف ولا زيف. وأدت الكوميديا، من خلال عمل بُث سنة 1985، يكشف التحول السلبي الذي عرفه المجتمع الجزائري بعد الانفتاح الاقتصادي، حيث انقلبت القيم والموازين وأصبح الدينار هو السيد، وهنا تؤدي صابونجي دور أمية تكلف نفسها عناء المظاهر والعصرنة بشكل يثير القهقهة.
كل من التقى صابونجي، سرعان ما يكتشف تلك السيدة الحنون التي تفيض أمومة وتواضعا، رغم وقوفها الشامخ وصورتها الجميلة، تتحدث برزانة وهدوء، وتحيي من قريب ومن بعيد جمهورها الوفي.