متحف مفتوح عبر القرون

قسنطينة عاصمة التاريخ

قسنطينة عاصمة التاريخ�
  • 2977
ق.ث� ق.ث

تشهد بقايا آثار ما قبل التاريخ والآثار القرطاجية والإسلامية التي تزخر بها قسنطينة، سواء تلك المتراكمة فوق الصخر العتيق أو المنتشرة على حافة المدينة، على التواجد المستمر للإنسان بها، مما سمح لها بأن تكون متحفا مفتوحا يقرأ التاريخ عبر امتداد القرون والحقبات، وتختزل عاصمة النوميديين لوحدها تاريخ الجزائر، إذ تزخر برصيد ثقافي معتبر، لكنه بقي مدفونا ولم يكشف عنه بعد ولا عن أسراره وسحره.

يتأكّد تواجد الإنسان على مشارف المدينة منذ عصور ما قبل التاريخ من خلال محتويات معروضة بمتحف سيرتا، تضمّ مجموعات من أدوات الاستعمال اليومي المصنوعة من الحجر الصوان والطين، وغير بعيد عن الموقع الأثري تيديس تقبع مغارات من العصر الحجري الوسيط، تحمل آثار وجود منشآت (محاريب وأسقف خارجية) ونقوش يعتقد أنّها تعود إلى الفترة القفصية (8500 -5400 قبل الميلاد) والتي تشهد على أنّ السكان الأوائل عرفوا نوعا من الحياة الاجتماعية على ضفاف وادي الرمال قبل ظهور الحضارات الأولى. 

كما ورثت المدينة من العصور القديمة آثارا تعود إلى الفترة النوميدية، توجد في حالة حفظ جيدة، على غرار بعض المعالم الجنائزية التي تعود إلى مرحلة ما قبل التاريخ وأضرحة ملكية مثل ضريح أغليذ (ملك بالأمازيغية) وهو مبنى ضخم من الحجارة الصخرية يقع بالخروب وكان دليلا للمسافرين عند اقترابهم من سيرتا القديمة قبل ألفي سنة خلت. 

توجد بمتحف سيرتا أيضا آثار خاصة بنوميديا الموحّدة، تتجلى من خلال الكمية المذهلة من العملات وشظايا الأواني الفخرية المعروضة وبقايا العظام البشرية والأثاث الجنائزي لاغليذ (ملك) والنقوش التي ترمز إلى الآلهة، مثل بعل حمون وتانيت. 

تتجلى مظاهر الفترة الرومانية للمنطقة من خلال موقع تيديس -حصن روماني شيّد على منحدر جبل مقابل للموقع الذي بنيت عليه سيرتا- حيث ما تزال آثار الحياة الثقافية والعمرانية للعصر الروماني بارزة للخبير، كما للإنسان العادي. 

في غياب إشارات أو وسائط إعلامية تدلّ على المكان، يقوم مرشدون بكلّ ما في وسعهم بمساعدة الزوّار على تصوّر في مخيّلتهم النمط المعيشي لتلك الفترة والمظهر الأصلي للمكان مع تقديم شروحات وافية عن تقنيات البناء والعادات والمراسم التي كانت سائدة في المنطقة في تلك الأزمنة الغابرة. 

وما تزال أيضا بعض الآثار المتعلقة بالتجارة وصناعة الفخار وزيت الزيتون والقمح وكذا آثار بعض المباني أو المعابد التي شيّدت تمجيدا لبعض آلهة العصر القديم مثل ميرثا وسيراس، وأدخل البيزنطيون لاحقا تغييرات على هذا الحصن، حيث أضافوا أبراج مراقبة بالخصوص. 

كما توجد في مدينة الصخر العتيق معالم ومبان تعدّ حديثة مقارنة بالأولى، مع أنّ تاريخها يعود إلى عدّة قرون خلت، إضافة إلى دور العبادة ذات الطراز الإسلامي والعثماني التي تعود إلى  القرن الـ 13ميلادي، وتتميّز المنطقة أيضا بالإنجازات التي أقامها صالح باي الذي يعدّ رمزا من رموز مدينة الصخر العتيق ويشمل هذا الإرث عدة مساجد ومدارس (1725-1792)، إلى جانب حي السكان اليهود وعدد كبير من الأسواق ماتزال في حالة حفظ جيدة. 

يشير كلّ ذلك إلى حرص القسنطينيين على العناية بهذا الإرث وتمسّكهم بهذه المدينة المتميزة التي هي اليوم في أمس الحاجة لإبراز إشعاعها الحضاري الذي ميز ماضيها، حسب الأثريين. 

كما ترك أحمد باي -آخر بايات قسنطينة ورمز لمقاومتها ضد الاحتلال- للأجيال الصاعدة جوهرة معمارية، وهي قصر الباي الذي شيد سنة 1835 وسط حديقتين واسعتين تشتهران باسمه إلى الآن. 

ولا تزال عاصمة الشرق الجزائري  تخفي في باطنها الكثير من آثار المباني الأولى التي شيّدت على ضفاف وادي الرمال، كما توجد ممرات باطنية غير مكشوفة وآثار أخرى لسيرتا القديمة التي يعتقد الأثريون أنّها تزخر -مثلها مثل الجزائر العاصمة- بآثار كلّ الحضارات التي تعاقبت عليها.