في 300 لغة حول العالم
كتاب يتابع الحروف العربية
- 269
في الوقت الذي قدَّرت منظمة "اليونسكو" التابعة للأمم المتحدة، عدد الناطقين باللغة العربية بأكثر من 450 مليون شخص حول العالم، يرصد الباحث السعودي عبد الرزاق القوسي في كتاب على جزءين، آراء العلماء عبر التاريخ في أصل الحروف العربية، متتبعا ودارسا عددا من اللغات العالمية التي كُتبت بالحروف العربية في فترات زمنية مختلفة.
جاء الكتاب الذي أصدره "مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية" ، في أكثر من 900 صفحة، تحت عنوان "عالمية الأبجدية العربية" . وشمل جداول ومخطوطات ورسومات توضّح العلاقة بين الحروف العربية وأصولها من اللغات القديمة، حلّل فيها الباحث القوسي بمشاركة الدكتور عبد الله الأنصاري (محرر الكتاب)، علاقة اللغة العربية وحروفها بأكثر من 300 لغة حول العالم. ورغم هذه العراقة والامتداد الحضاري للغة العربية عبر العصور، إلاّ أن "اليونسكو" دقَّت ناقوس الخطر حول توافق هذا العمق الثقافي مع متطلبات الوسائل التقنية الحديثة، مشيرة إلى أنّ المحتوى المُتاح على شبكة الإنترنت باللغة العربية، لا يتجاوز نسبة 3 ٪؛ ما يحدّ من إمكانية انتفاع الملايين من الأشخاص، به.
وفي سبيل تقديم حلول علمية لهذا الأمر وتطوير نشر المحتوى العربي على الأنترنت، أطلقت "اليونسكو" ، مناسبة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية لهذا العام 2024، تحت عنوان "العربية والذكاء الاصطناعي: تحفيز الابتكار وصون التراث الثقافي" ؛ حيث ستُنظّم فعالية تجمع خلالها عددا من العلماء والخبراء في مجال الذكاء الاصطناعي وروّاد الثقافة؛ بغرض استكشاف سُبل سدّ هذه الفجوة الرقمية عن طريق الذكاء الاصطناعي، وتعزيز حضور اللغة العربية على شبكة الأنترنت، ودعم الابتكار، وتشجيع الحفاظ على التراث.
وعودة إلى كتاب "عالمية الأبجدية العربية" ، فقد ناقش فيه المؤلف أصل الحروف العربية، موضّحا أن العلماء اختلفوا حول أصلها؛ فمنهم من يرى أنّ أصلها "الكتابة النبطية المتأخّرة"، ومنهم من يرى أنّ أصلها الكتابة "السريانية الأسطرنجيلية" . لكن في مقارنة أجراها الباحث، توصّل إلى أنّ أكثر النظم الحرفية قُربا للحروف العربية المعاصرة، هي الحروف المندائية بسبعة أحرف مضاف إليها حرفان، ثم الحروف النبطية بستة أحرف، ثم السريانية بخمسة أحرف.
وفي مطلع الكتاب يرى الباحث أنّ العرب كتبوا لغتهم قبل الإسلام بشكل محدود. ولم يصلنا إلاّ بعض القصائد، وبعض الخطب غير المكتوبة؛ فالمعلّقات الشعرية التي كانت تُكتب على أستار الكعبة، لم يصلنا منها مكتوبا إلاّ القليل، وشفهيا، مضيفا: "لا شكّ أنّ العرب كتبوا لغتهم قبل الإسلام بقرون. ووصلَنا منها الكثير من النقوش هنا وهناك في عموم شبه الجزيرة العربية. ومعظم النقوش التي لها صلة بالكتابة العربية المعاصرة، نجدها في شمال الجزيرة العربية".
وفي تتبّعه اللغات التي استخدمت الحروف العربية، يرى القوسي أنّ هناك لغات كثيرة لم تُذكر في هذا البحث؛ لأسباب متعددة، لعلّ من أهمها أنّ كتابة تلك اللغات بالحروف العربية انتهت مثل عدّة لغات في إثيوبيا وإرتيريا كـ«الأرغوبية"، و«الأمهرية"، و«التجرينية"، و«العفرية"، وكذا "الغوراغية"، على الرغم من أنّها كُتبت بالحروف العربية، على الأقل من قبل المسلمين، كما إنّ بعض اللغات في شرق أوروبا، كُتبت بالحروف العربية من قبل بعض المسلمين لفترة مؤقتة، مثل الرومانية.
ولاحظ الكتاب أنّ هناك لغات عديدة تسمي كتابة اللغة بالحروف العربية، تسمية خاصة؛ مثل "عجمي" أو "جاوي" ؛ حيث ظهرت هذه التسمية في إفريقيا والأندلس، ومنها امتدّت إلى شرق آسيا. وهذه التسمية معاصرة لفترة كتابة اللغة الفارسية بالحروف العربية، لكن لم تظهر تسمية خاصة بها في فارس أو آسيا الوسطى، لكنّه يؤكد أن الشعوب التي تبنّت كتابة لغتها بالحروف العربية، كتبتها بسبب حبّها للإسلام، وللعرب، وللّغة العربية، وبسبب الروابط الدينية وليس بسبب ضغوط أخرى.
ويعود أكبر انتشار للحروف العربية، حسب الباحث، إلى بداية القرن العشرين؛ إذ كانت تُستخدم في قارات العالم القديم آسيا وإفريقيا وأوروبا، ثم تراجعت الحروف العربية واقتصرت على آسيا وإفريقيا. أما في اللغات الأوروبية فلاتزال "التتارية" و«البشكيرية" تستعملان الحروف العربية بشكل محدود جدا. وفي إفريقيا تُستخدم الحروف العربية في اللغات "القمرية"، و«المايا"، و«الماندنكا" التي تستخدم الحروف العربية واللاتينية معاً. وأما بقية اللغات الإفريقية فتستخدم الحروف العربية بشكل شعبي، وتتفاوت فيما بينها. وفي آسيا فيرى الباحث أنّ من أهم أسباب انتشار الكتابة بالحروف العربية، استقلال باكستان، وسعيها لنشر التعليم؛ ما جعل الحروف العربية تنتشر أكثر، ويزيد عدد اللغات المستخدمة فيها. فعند استقلالها كانت اللغات المكتوبة في حدود 5 لغات. وبعد استقلالها أصبحت لغات باكستان لغات مكتوبة، وفيها حركة نشر بالحروف العربية، كما في اللغات الكهوارية، والبروشاسكية، والكتشية، والأورمرية، وباركري كولي، والبرهوية، وبوتهواري، وتؤزوالية، والسرائيكية.. إلخ.
ويورد المؤلّف أدلّة على الكتابة بالحروف العربية في عدد من اللغات المعاصرة؛ مثل اللغة الأذرية، التي تُكتب في إيران بالحروف العربية، وفي أذربيجان بالحروف الكريلية (الروسية سابقا)، ثم بالحروف اللاتينية الآن. واللغات البوتهوارية، والتالش، والبروشسكية تُكتب، أساسا، بالحروف العربية. لكن هناك من فقد كتابتها بالحروف اللاتينية، واستهوت الكثيرين للكتابة بها على الأنترنت، لكن الكتابة الشائعة وحركة النشر أساسا بالحروف العربية، كذلك اللغة "الأيغورية" تُكتب، أساسا، بالحروف العربية. وقلة جدا التي تكتبها بالحروف اللاتينية. والحكومة الصينية تدعم كتابتها بالحروف العربية.
يُذكر أنّ الكتاب جاء ضمن أعمال وبرامج مشروع "المسار البحثي العالمي المتخصّص" الذي أطلقه مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية؛ لإثراء المحتوى العلمي ذي العلاقة بمجالات اهتمام المجمع، ودعم الإنتاج العلمي المتميّز، وتشجيعه. ويضمّ المشروع مجالات بحثية متنوّعة، من أبرزها دراسات التراث اللغوي العربي وتحقيقه، وقضايا الهوية اللغوية، ومكانة العربية وتعزيزها، واللسانيات، والتخطيط والسياسة اللغوية، والترجمة والتعريب، وتعليم اللغة العربية للناطقين بها وبغيرها، والدراسات البينية.