"الطوفان الرقمي"

"..كيف يؤثر في حياتنا وحريتنا وسعادتنا؟"

"..كيف يؤثر في حياتنا وحريتنا وسعادتنا؟"
  • 860
م. ص م. ص

لآلاف السنين ظلّ الناس يقولون إن العالم يتغير، وإنه لن يعود أبداً كما كان، إلاّ أن التغيرات الجبارة التي تحدث اليوم تختلف عن سابقتها؛ لأنها تنبع من تطور تكنولوجي محدد. فمن حيث المبدأ أصبح ممكناً الآن تسجيل كل شيء يصدر عن أيّ شخص، سواء كان قولاً أم فعلاً أم غناء أم رسماً أم تصويراً. وإذا رُقمن كل شيء فلدى العالم الآن من أقراص وشرائح الذاكرة ما يكفي لحفظ ذلك كله متى ظلت البشرية قادرة على إنتاج أجهزة الكمبيوتر، ومحركات الأقراص. ويمكن شبكاتِ الكمبيوتر العالمية إيصال هذا إلى كل مكان في العالم، على الفور تقريباً.

في هذا الكتاب وعنوانه "الطوفان الرقمي.. كيف يؤثر في حياتنا وحريتنا وسعادتنا؟" (ترجمة أشرف عامر)، يطرح هال أبلسون وهاري لويس وكين ليدين، بعض الآراء القاطعة. ويرمون صورة للمتغيرات التي أسفر عنها الانفجار الرقمي، معتمدين على نموذج الولايات المتحدة، وقوانينها، وثقافتها، لكن القضايا التي يثيرها الكتاب بالغة الأهمية لكل المجتمعات الحرة، ولكل من يأملون في أن تتمتع مجتمعاتهم بمزيد من الحرية.
شبكة الإنترنت ليست صفحات ويب، كما يرى الكتاب، وبريداً إلكترونياً وصوراً رقمية، بقدر ما إن الخدمة البريدية عبارة عن مجلات وطرود ورسائل ترِد إليك من أقاربك. والإنترنت ليست حفنة من الأسلاك والكابلات بقدر ما إن الخدمة البريدية عبارة عن مجموعة من الشاحنات والطائرات. الإنترنت عبارة عن نظام؛ خدمة توصيل للأكواد الرقمية بصرف النظر عما تمثله، وبصرف النظر عن كيفية تنقّلها من مكان إلى آخر. ومن المهم أن تعرف كيف تعمل الإنترنت لتدرك لماذا تعمل بشكل جيد جداً، ولتفهم السبب في أنه يمكن استخدامها لأغراض مختلفة كثيرة. لقد تغيّر وجه العالم بغتة؛ فكل شيء تقريباً مسجل على جهاز كمبيوتر يقبع في مكان ما من هذا العالم، وهذا يشمل سجلات المحاكم، وما اشتريته من محل البقالة، وصور عائلتك التي تعتز بها، بل والبرامج الإذاعية غير الهادفة. وتتضمن أجهزة الكمبيوتر اليوم، الكثير مما نَعده اليوم، لا طائل منه، إلا أن هناك من يظنّ أنه في يوم من الأيام ستصير له قيمة، وكلّ هذا يختزل في تلك اللغة الرقمية التي لا تعرف إلا عنصرين اثنين: الصفر والواحد. هناك كمٌّ هائل من المعلومات والبيانات الرقمية الصحيحة، بل والمضلّلة، بل والكثير من "النفايات المعلوماتية" لا تستطيع العين البشرية ملاحظته، ولا تراه إلاّ أجهزة الكمبيوتر. وكل يوم تزداد أجهزة الكمبيوتر قدرة على استخلاص المعاني من كل هذا الركام الهائل، فنجدها تستخرج أنماطاً تعين الشرطة في بعض الأحيان، على حل الجرائم، وتقدم اقتراحات مثمرة، وتكشف أحياناً عن أشياء لم يدر بخلدنا يوماً، أن يكتشفها الآخرون. ويوضح الكتاب أن الانفجار الرقمي حين كان في مهده بدا أن الصراع على الخصوصية صار حرباً، فكان الأفراد يريدون حماية أنفسهم ضد القوى الغازية الآتية من العالم الرقمي. أما المؤسسات والشركات والحكومات فكانت تسعى وراء الاستفادة من المعلومات التي لا يريد الأفراد الكشف عنها. وحين أتت الممارسة الفعلية اتّضح أن الأمور أكثر تعقيداً بكثير؛ فقد طرأت تحسينات على ألوان التكنولوجيا؛ حيث أصبح جمع البيانات أسهل وأقل إزعاجاً. ووُضعت حوافز يسيرة، تحث المرء على التضحية بخصوصيته.
قد لا يرى الجيل القادم فقدان الخصوصية تضحية؛ قال سقراط يوماً إن الحياة التي لم نختبرها لا تستحق أن نعيشها. لكن من نشأ في ظل عالم "الجي ميل" و”ماي سبيس" قد لا يرى بأساً بالحياة المكشوفة أمام الآخرين. وعلى حدّ التعبير الساخر للرئيس التنفيذي لإحدى الشركات المهمة، "خصوصيتك منعدمة على أي حال؛ فعليك أن تتأقلم مع الأمر".
يوضح الكتاب أن الانفجار الرقمي أحدث ثورة في مجال التواصل الإنساني. إن التكنولوجيا التي ظهرت في الماضي واستخدمت في نشر النصوص والكلمات المنطوقة والصور، غيّرت، هي الأخرى، وجه العالم، لكن لم تَخل أيٌّ منها من عيب. يمكن عيونَ الملايين أن تقرأ كتابك، لكن شريطة أن تستطيع نشره. ويمكنك أن تكتشف وجود فضيحة تسقط بها إحدى الحكومات شريطة أن تجد صحيفة تنشر ذلك، وتعرضه على الجمهور. ويمكن أن يصل كلامك إلى مليون أذن شريطة أن تتحكم في محطة إذاعية.
رغم التوسع الذي لا يمكن تصوره والذي شهده عالم الاتصالات خلال ربع القرن الماضي، لم يتحدد إلى الآن ما إذا كانت حرية التعبير ستزيد أم ستقل في المستقبل عما كانت عليه في الماضي، وهذا ينسحب أيضاً على الولايات المتحدة، التي تملك التعديل الأول للدستور الأمريكي، الذي لا يتنازل مطلقاً في موضوع حرية التعبير؛ الأمر الذي يشبه شجرة تسقط في غابة؛ فما فائدة استخدام حرية التعبير إن لم تجد لك مستمعاً؟.