الكاتب الإعلامي مصطفى بن فضيل لـ"المساء":

لا نكتب من العدم.. الكتابة تراكمات

لا نكتب من العدم.. الكتابة تراكمات
الكاتب الإعلامي مصطفى بن فضيل
  • 608
حاورته: لطيفة داريب حاورته: لطيفة داريب

❊ "المحطة الأخيرة لبابل" رواية تحكي قصة إعدام كتاب

اتصلت "المساء" بالكاتب الإعلامي مصطفى بن فضيل، الذي وصلت روايته الأخيرة "تارمينوس بابل" (المحطة الأخيرة لبابل) الصادرة عن دار برزخ، إلى القائمة الطويلة لجائزة آسيا جبار (2024) وأجرت معه هذا الحوار:

❊ تناولت في روايتك هذه، أحاسيس وأفكار كتاب محكوم عليه بالإعدام، كيف جاءتك الفكرة؟

تعالج رواية "بابل المحطة الأخيرة" الصادرة مؤخرا عن دار البرزخ، مسألة الصناعة الأدبية والمنظومة الرأسمالية للكتاب التي تعامل المنشورات الفكرية والإبداعية بشتى أنواعها كمنتوج كغيره من المواد الاستهلاكية الخاضعة لقانون العرض والطلب، والكتب التي لا تلقى رواجا في السوق يتم استرجاعها من المكتبات ويتم تدميرها ورسكلتها إلى ورق يعاد استعماله في طبع كتب و مجلات أو صحف ويستعمل أيضا لإنتاج ورق التغليف.

ويتم تدمير مئات الملايين من الكتب سنويا بهذا الشكل. في فرنسا وحدها تدمر حوالي مئة مليون نسخة من أصل 500 مليون نسخة تطبع سنويا، يعني الخمس وهذا فظيع. في 2012، دعيت من طرف محافظة تظاهرة "مرسيليا عاصمة الثقافة الأوروبية" لأشتغل حول هذا الموضوع، وقضيت 6 أشهر كاملة في مكتبة جامعية تابعة لجامعة مارسيلياَ-إكس أون بروفنس (Aix-  Marseille université) التي منحت لي فرصة العمل على الكتب التي تتخلص منها هذه المكتبة الجامعية، فالمكتبات أيضا تدمر الآلاف من الكتب وفق معايير عقلانية منها الحالة المادية للكتاب، وضرورة تحديث المعارف العلمية وهناك أيضا عامل الرقمنة خاصة بالنسبة للموسوعات و المجلدات الضخمة التي تأخذ الكثير من المكان، فمحافظو المكتبات ملزمون دائما بتوفير مكان للمقتنيات الجديدة من الكتب.

أول ما باشرت إقامتي الأدبية في هذه المكتبة الهائلة في مدينة مرسيليا، بدا لي بصورة واضحة أن مشروعي الفنّي سيتمحور حول تأليف رواية تتناول قصة كتاب حكم عليه بالإعدام بالمفهوم الذي شرحته آنفا، ولقد ساعدني كثيرا فريق المكتبة في إنجاز هذا العمل وهو مشكور على ذلك، كان لي الحظ أنني عملت في مخزن سري لهذه المكتبة الجامعية مهيأة خصيصا لحشر الكتب التي تم سحبها من رفوف المكتبة قصد استبدالها، حيث تمكث لبضعة أسابيع قبل تحويلها إلى مصنع متخصص في رسكلة ورق الكتب المرشحة للزوال التي كانت في متناولي طول مدة إقامتي شكلت المادة الخام لمشروعي، وفي اليوم الأول الذي قمت فيه بزيارة هذا المخزن السري وجدت نفسي أمام عدد هائل من الكتب وخيّل إلي أنها شعرت بوجودي وتتحدث إلي. بدا لي إذن، منذ الوهلة الأولى بأن أبطال روايتي سيكونون كتبا وأن الراوي نفسه الذي سيقود العملية السردية هو في حد ذاته رواية، عنوان هذه الرواية هو: "في رثاء نجمة مشاكسة".

هذا العنف اتجاه الكتب والمكتبات مرده السعي إلى تدمير ثقافة مغايرة ليس إلا، وتكريس هيمنة منظومة فكرية وعقائدية معينة

❊ سلّطت الضوء أيضا على حياة كتاب إلى درجة تغيير مفهومنا له، أليس كذلك؟

❊❊هذا ما سعيت إلى تحقيقه فعلا بتصميم بنية سردية تروي لنا هذه الأحداث من وجهة نظر الكتاب، كان بإمكاني معالجة هذا الموضوع بالاستعانة بشخصية بشرية، على سبيل المثال عامل في المكتبة يكشف لنا مثل هذه الممارسات التي لا يعرفها رواد المكتبة، أو قارئ فضولي سيكتشف هذا المكان الغريب الذي تحشر فيه الكتب التي يتم التخلص منها وينطلق في إجراء تحقيق حول مصير هذه الكتب، أو ناشط ثقافي يقود عملية بطولية لتحرير هذه المجلدات المنبوذة... لكنني فضّلت هذه المعالجة التي تضفي على الحكاية شيئا من الغرابة و التشويق.. فأنا شغوف بالخيال والقصص ذات الطابع الخرافي ومولع أيضا بالسريالية، هناك أمر آخر يقف وراء هذا الاختيار، هو أنني أردت أن أوحي للقارئ بأن الكتاب كائن حيّ يملك روحا ووجدانا وليس مادة استهلاكية، أؤمن حقا أن جسد الكتاب من جسد الكاتب وروح الكتاب من روح الكاتب.

❊ تعرض الكتاب منذ زمن سحيق إلى عمليات إبادة، إلى ما يعود ذلك؟

مرد ذلك في اعتقادي أن الكتاب هو رمز الثقافة بامتياز وهو من أقدم الرموز الحضارية وأعتقها، كان الأمر كذلك حتى قبل تطور اختراع المطبعة من طرف الألماني قوتنبرق Gutenberg عام 1450م، فقد كانت وسائل أخرى لإنجاز الكتب والمخطوطات. ورغم التطور التكنولوجي الهائل الذي عرفته البشرية وسائر الفنون في العصر الحديث غير أن الكتاب بقي الوعاء والوسيط الطبيعي للمعرفة والإنتاج الفكري، والمكتبات الوجه المشرق للحضارات، في أي مدينة نزورها أول ما يلفت انتباهنا هو العمران والمتاحف وأيضا المكتبات، وربما ما يجعل المكتبات أكثر أهمية هو احتضانها كل العلوم و المعارف والأفكار، فهي مرآة لثقافة أمة وهذا ما يفسّر استهداف المكتبات أثناء الحروب والغزوات الاستعمارية.

هذا ما حدث مع مكتبة بغداد على يد المغول في 1258، ويحكى أن لون نهر دجلة الذي يعبر بغداد قد صار أسودا بفعل حبر آلاف الكتب التي ألقي بها في النّهر.  وحدث نفس الشيء مع مكتبة أنطاكيا في تركيا في القرن الرابع الميلادي حيث دمرها الرومان، ولما دخلت فرنسا الى الجزائر دمرت وأحرقت الكثير من الكتب والمخطوطات ومكتبات المساجد والزوايا ونهبت العديد من الأرشيف والوثائق التاريخية وحتى وهي على وشك الرحيل بعد اتفاقيات إيفيان قامت المنظمة الإجرامية (أواس OAS) بتفجير مكتبة الجامعة المركزية في 7 جوان 1962، وفي 2013 في مالي قام متطرّفون بإحراق العديد من المخطوطات القديمة في مدينة طمبكتو، هذا العنف اتجاه الكتب والمكتبات مرده السعي إلى تدمير ثقافة مغايرة ليس إلا، وتكريس هيمنة منظومة فكرية وعقائدية معينة.

حاولت أن أضع مسافة نقدية بين نفسي وعملي الإبداعي والكشف عن بعض أسرار حرفة الكتابة

❊ لماذا اخترت في روايتك حياة كاتب من خلال أعين كتاب؟

 في الواقع الكتاب والكاتب مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، ومن خلال هذه الخطة السردية أردت بشكل خاص تسليط الضوء على هذا الكتاب السري الذي يحمله الكاتب بداخله، قبل أن يصبح منتوجا أدبيا قابلا للطبع والتسويق، ومن ناحية أخرى أردت إحداث تغيير في الرؤية من خلال عكس العلاقة بين الكتاب ومؤلفه وذلك بإعطاء "السلطة السردية" للكتاب وتحويله من وعاء سيميائي إلى حاكي، من خلال هذا التوزيع الغريب أيضا للأدوار، حاولت أن أضع مسافة نقدية بين نفسي وعملي الإبداعي والكشف عن بعض أسرار حرفة الكتابة، طقوسها ونواميسها بصيغة تهكمية ومرحة.

❊ جعلت روايتك أيضا، مناسبة لتقديم أعمال أدبية أخرى، هل هي قضية عرفان؟

أكيد.. ما دام موضوع الرواية هو عالم الكتاب، وأيضا الجانب المظلم للصناعة الأدبية من خلال مسألة تدمير الكتب، الحديث عن هذا الموضوع يجرنا بالضرورة إلى الحديث عن الكتب التي سيتم تدميرها بما في ذلك العديد من المؤلفات الشهيرة. ومن جهة أخرى يستحضر الراوي مكتبة مؤلفه، في هذا إشارة إلى أن الكتّاب هم أيضًا، بطريقة ما نتاج قراءاتهم ويتشكلون من خلال ما يطالعونه، في النهاية روايتي هي قبل كل شيء تحيّة للكتاب وإشادة بالكتب التي ساهمت في تكويني الأدبي والفكري وأثرت في مساري الفنّي.. لا يمكنني ذكرها كلها لأنها كثيرة جدا على سبيل المثال، هناك بورخيس، بوهوميل هرابال، جورج بيريك، آسيا جبار، مارغريت دوراس، آني إرنو، محمد ديب، يمينة مشاكرا، حميدة عياشي.

❊ يقال إن كل كتاب فريد من نوعه، لكنّك ذكرت في روايتك أن كل نسخة من كتاب فريدة من نوعها، ممكن توضيح ذلك؟

تماما! النسخة ليست مجرد مؤشر تجاري أو صناعي لمستوى استنساخ الكتاب ودرجة مقروئيته، نجاحه أو إخفاقه من خلال عدد المبيعات والنسخ المسترجعة، و النسخة لا تعني أننا أمام مادة استهلاكية قابلة للتبديل مع نسخ أخرى، فكل نسخة من الكتاب هي كائن فريد حيث ستكون له قصته الخاصة مع القرّاء ومصيره الخاص، فمساره سيكون حتما مختلفا عن مسار ومصير النسخ الأخرى، سيلتقي بقرّاء مختلفين وسيتم توزيعه في مكتبات مختلفة، وربما سوف يسافر إلى مدن أخرى أو حتى بلدان أخرى وفق الصدف التي ستعتري طريقه والأشخاص الذين سيحصلون عليه ويقتنوه أو يستعيرونه، هذه السلسلة من القرّاء غير المرئية هي التي توحي إليها في نهاية المطاف مسألة النسخة، وهذه الفكرة أردتها تحيّة عرفان ومحبّة للقارئ، وإشارة إلى العلاقة الوطيدة التي تنشؤها مغامرة الكتابة والكتاب.

❊ ثلاث قصص في رواية واحدة، لم هذا الخيار؟

الرواية مبنية مبدئيا على مستويين سرديين، هناك من جهة كل الأحداث التي سيعيشها الكتاب منذ وصوله إلى هذه المخزن السري لمكتبة مرسيليا الكبرى إلى مغادرته للمكتبة نحو المؤسسة المختصة في رسكلة الورق. ومن جهة أخرى هناك كل ما يتعلق بمخاض الكتابة إذ يعود بنا الكتاب إلى الوراء فيقص علينا حيثيات تأليفه، هنا يمتزج بعدان، هناك من ناحية الـ"ماكينغ اوف"Making of الأدبي المحض المرتبط تحديدا بأمور تقنية حول كيفية نسج خيوط هذه الرواية بأبعادها السردية والفنّية و الجمالية، ومن ناحية أخرى هناك بعدا آخر متعلقا بالظروف المادية والاجتماعية التي أنشئت خلالها الرواية أو ما أسميه الـ"ماكينغ اوف" Making of الاجتماعي لهذا العمل الأدبي، ونتطرق من هذا الباب لكل ما سيمر به الكاتب أثناء مساره الإبداعي.. ما مشارب إلهامه ومن أين يستقي أفكاره.. وكيف يتعامل مع محيطه.

بدا لي تشابك هذه القصص الثلاث واضحا من حيث أن كل واحدة منها تشير إلى إشكالية معينة تتعلق بمسألة الكتابة، وشروط الإبداع الأدبي والإبداع الفنّي في الجزائر، ومستقبل الكتاب عندما يغادر مخيال كاتبه. وعسى كل هذا يتلخص في السؤال الجوهري الذي يدور حوله الكتاب بأكمله، وهو: ماذا يعني أن تكون كاتبا في الجزائر اليوم؟

كل نسخة من الكتاب هي كائن فريد له قصته الخاصة مع القرّاء ومصيره الخاص

❊ "ترمينوس بابل" رواية لكن أجزاء منها تظهر في شكل دراسة، إلى ما يعود ذلك؟

يمكن تفسير ذلك في المقام الأول من خلال الطابع الغالب على أعمالي، إذ يتضح جليا أن إحدى خصائصها الشكلية هي التهجين والمزج بين الأنواع الأدبية، في كل أعمالي الأدبية نجد السرد الروائي ولكن أيضًا الشعر والكتابة المسرحية والرسومات واليوميات والـكتابة الوثائقية.. وهذه الرواية توثّق لأشكال العنف الممارس ضد الكتاب عبر التاريخ، كما يتناول موضوع تدمير الكتب لأسباب اقتصادية وبيئية، وهو ما يحدث بشكل خاص في العالم الغربي على نطاق واسع. هذا ما جعل الرواية قد تبدو أحيانا قريبة إلى نوع الكتابة التاريخية أو اقتصاديات المكتبات غير أن الطابع الروائي هو الغالب، إذ معظم المعلومات المقدمة للقارئ بخصوص ما يسمى le pilon أو التدمير المتعمّد للكتب لأسباب اقتصادية أو سياسية أو عقائدية واردة على لسان شخصيات مثل شخصية أودليف، وهو كتاب تناول هذه المسائل بإسهاب تحت عنوان التاريخ الكامل لتدمير الكتب.

❊ ما هدفك من وضع المقاطع المشطوبة في عملك هذا؟

المقاطع المشطوبة في الرواية نجدها أساسا في الفقرات التي تحمل عنوان "ماكينغ اوف" Making of . كقراءة أولية لهذه الجمل والصيغ المحذوفة، هي تعبّر ببساطة عن الكتابة كعمل حقا ممتع ولكن في نفس الوقت مضني وشاق، وهكذا يمكن أن نستغرق ساعات ونحن نحاول ونحاول ونمحي ونعيد الكرّة من جديد إلى أن نصل إلى الصيغة التي ترضينا والوصف المناسب لذلك الموقف أو لتلك الشخصية، هذه المقاطع المشطوبة توحي من جهة أخرى أن الكاتب أيضًا يحطم بعضا من كتاباته وربما هو أول المدمرين للأعمال الأدبية، ونجده أحيانا يمارس الرقابة الذاتية على كتاباته، علينا إذن أن نتمعن فيما يحذفه الكاتب، وهل هذا الحذف هو لدواعي سردية وجمالية محضة أم تمليه اعتبارات أخرى قد تكون ذات طبيعة سياسية أو دينية أو مجتمعية، حتى السوق يمكن أن يدفع أحيانا إلى الكتابة بشكل معين وتجنب القوالب الفنّية المنفّرة للقارئ العادي، في هذه الكلمات الممحية كذلك إيحاء بأن العملية الإبداعية تحمل في ثناياها فكرة البالمسست le palimpseste بمعنى أننا لا نكتب من العدم ولكن الكتابة تراكمات.

روايتي هي قبل كل شيء تحيّة للكتّاب وإشادة بالكتب التي ساهمت في تكويني الأدبي والفكري وأثّرت في مساري الفنّي

❊ لقد ندّدت بالإمبريالية في عقر دارها (فرنسا) موقف شجاع منك، أليس كذلك؟

عملي ليس بهذه الشجاعة. إن القائمين على المكتبة الجامعية بمرسيليا هم الذين يعود إليهم كل الفضل في انجاز هذا العمل المتواضع، وقد كانت لهم الجرأة في كسر واحد من أكبر الطابوهات المتعلقة بالصناعة الأدبية وبعالم الكتاب وهو التدمير المتعمّد للكتب، ولذلك فإنني ممتن للغاية لمكتبة جامعة إيكس مرسيليا Aix-Marseille Université التي رحبت بي أثناء إقامتي الأدبية في مرسيليا في عام 2012، لإنجاز هذا المشروع فلولاها لما وُجدت هذه الرواية.