"وين صرنا" للمخرجة درة زروق
مرآة النزوح وصوت النساء في زمن الحرب

- 353

تابع الجمهور العنابي، مساء السبت، بشغف وانتباه عالٍ، العرض الوثائقي التونسي "وين صرنا" للمخرجة درة زروق، في إطار المنافسة الرسمية لمهرجان الفيلم المتوسطي بعنابة، في فئة الأفلام الوثائقية الطويلة، حيث شكل العمل الذي عُرض بالمسرح الجهوي "عزالدين مجوبي"، لحظة إنسانية قوية، إذ تفاعل الحضور مع القصة بشكل واضح، وخرج كثيرون منهم متأثرين، محملين بأسئلة تتجاوز السينما، لتطول الواقع العربي المضطرب.
يسرد الفيلم، بأسلوب هادئ وملامس للوجدان، حكاية نادين، امرأة فلسطينية تهجر قسرًا من غزة مع بناتها وأسرتها، لتستقر مؤقتًا في شقة راقية بمصر. لكن "الراحة" الظاهرية في المكان الجديد لا تمحو جراح الماضي. تتناوب الذكريات والأصوات والصور (من خلال تقنية الفلاش باك)، لرسم مشاهد من القصف، من الخوف، ومن الفقد، دون الوقوع في الميلودراما أو الابتزاز العاطفي.
ركزت زروق عدستها على الوجوه، لا على الدمار. على الصمت، لا على الخطابات. وكانت المرأة (لا الجندي أو السياسي) هي التي حملت عبء الحكاية هذه المرة. نادين، مثلها مثل مئات آلاف النساء العربيات، ليست بطلة خارقة، لكنها عماد الذاكرة والنجاة.
تميز الفيلم بإيقاعه المتأمل، حيث اختارت المخرجة أن تمنح المشاهد وقتًا للغوص في التفاصيل النفسية، بعيدًا عن الضجيج. الكاميرا كانت حنونة، الموسيقى شحيحة، لكنها مؤثرة، والأهم من ذلك، أن كل لقطة حملت سؤالًا أكبر من نفسها: متى يصبح النزوح حالة دائمة؟ ومتى يُصبح الوطن مجرد ذكرى؟.
لاحظ النقاد في الندوة التي تلت العرض، كيف أن الصدق الفني تغلب على التقنيات البصرية. فالفيلم لا يسعى إلى الإبهار بقدر ما يراهن على القرب العاطفي. الجمهور العنابي لم يتلقَ الفيلم كقضية "سياسية"، بل كحكاية إنسانية يمكن أن تحدث في أي مكان وزمان، وهو ما منح الفيلم عمقه ووقعه الحقيقي.
ورغم تميز العمل، فقد طُرحت بعض الملاحظات في الجلسات النقدية، أبرزها وجود بطء في بناء الحكاية خلال الربع الأول من الفيلم، ما قد يؤثر على تفاعل المتفرج الأقل صبرا، وتكرار بعض الرموز البصرية، مثل مشاهد الطيور والبحر دون دلالات جديدة، بالإضافة إلى التركيز على شخصية واحدة بشكل رئيسي (نادين)، بينما كان بالإمكان إعطاء مساحة سردية أوسع لأفراد آخرين من العائلة، لإغناء الفضاء الدرامي. لكن هذه الملاحظات لم تحجب قوة الفيلم في معالجته العاطفية للموضوع، ولا نضج المخرجة في التعامل مع موضوع شائك من زاوية ناعمة وإنسانية.
جاء "وين صرنا"، ليؤكد مرة أخرى، على حيوية السينما التونسية، وقدرتها على إعادة طرح قضايا عربية كبرى برؤية جديدة، خالية من الشعارات ومليئة بالعمق الفني. ومما لا شك فيه، أن هذا العمل سيحظى باهتمام أكبر في دوائر المهرجانات القادمة، وربما خارج العالم العربي أيضًا، لما فيه من لغة كونية ترتكز على المشترك الإنساني.