واسيني الأعرج يكتب عن رحيل الأديب والمترجم بقطاش:
مرزاق بقطاش.. استراحة البحَّار الأخير
- 1203
كلما التفتُّ نحو مكتبتي لمحتُ جيش الأصدقاء المرصوصين في شكل مؤلفات تتسلق حيطان البيت كلها. ما الذي يثبتهم في الذاكرة الفردية أو الجمعية؟ بعضهم توفي منذ قرون مثل هوميروس، المعري، غاليو، دافانشي، سيرفانتس، ابن عربي، التوحيدي وغيرهم، وهناك من غادرنا منذ سنوات؛ ابن دوقة، وطار، نجيب محفوظ، ماركيز، وآخرون ماتزال أمكنتهم دافئة لأنهم خرجوا من هذه الدنيا قبل شهور قليلة مثل كارلوس زافون وغيره.
هذه الوجوه وغيرها لا تغيب إلا لتحضر من جديد؛ وكأن القدر تخطاها. وجوه لا يزيدها الموت القاسي إلا ترسخا أبديا فينا. فقد حفرت أمكنتها بإزميل الحياة الخالدة أبدا، بإبداعاتها الحية، ولكن أيضا بإنسانيتها الراقية. لم يكن مرزاق بقطاش (1945- 2021) روائيا مميزا أبدع نصوصا تظل في الذاكرة أبدا فحسب، ولكنه شكّل أيضا منعطفا حقيقيا في التجربة الروائية العربية الحديثة في الجزائر؛ فقد كان جسرا رابطا بين جيلين؛ الجيل الترسيخي كابن هدوقة ووطار، ومحمد عرعار الذي ورث الرواية في صورها التأسيسية الأولى منذ الأربعينيات من رضا حوحو، نور الدين بوجدرة، محمد المنيع، وغيرهم، والجيل الشبابي أو ما سُمي لاحقا بجيل السبعينيات، الذي احتضن الرواية، وجعل منها جنسا أدبيا له مكانته في الحقل الثقافي، وطنيا وعالميا.
لهذا حملت نصوص مرزاق بقطاش الكثير من علامات النص الكلاسيكي الذي شيد مشروعه الروائي عليه بالدرجة الأولى، متأثرا بالمنجز الروائي العربي والعالمي الكبير، وبالكثير من العناصر التجديدية، التي جعلت النص الروائي لديه يتخطى عتبات المحافظة على الشكل الروائي الأحادي الذي كان بصدد التفكك.
ثقافته العربية والفرنسية والإنجليزية المتينة، وأمازيغيته الأصيلة في بعدها اللغوي والثقافي، جعلت منه أديبا روائيا كاملا، خارج السجالات العرقية أو النموذج الغربي المطلق.
رواياته الكبيرة، ومجموعاته القصصية، ومقالاته الصحفية، وحتى بعض تأملاته، وأشعاره، ونصوصه الحرة، تؤكد كلها على هذا الغنى الذي حملته نصوصه؛ فقد نشر بالفرنسية رواية مهمة بعنوان: كلاموس (القلم)، قبل أن يترجمها، هو بنفسه، إلى اللغة العربية.
نشر بالعربية نصوصا روائية كثيرة، منها ”طيور في الظهيرة”، ”البزاة”، التي شكلت الجزء الثاني من سيرته التي افتتحها بـ ”طيور في الظهيرة”، ثم ” الكابران”، وبعدها رواية ”دم الغزال”، وغيرها من النصوص التي تتبعت حركة المجتمع الجزائري بدقة الروائي والأنثروبولوجي منذ الاستعمار الفرنسي؛ حيث تابع الاحتلال بعيني الطفل، ثم فترة التحولات الجزائرية العميقة، والتي خلّفت شروخا عميقة في البنية النفسية للشعب والمجتمع.
في العشرية السوداء؛ التسعينيات، أصبح عضوا في المجلس الوطني الاستشاري الذي أسسه الرئيس المغتال محمد بوضياف، قبل أن يتعرض مرزاق بقطاش إلى محاولة اغتيال نفذ منها بقدرة قادر. الرصاصة التي اخترقت خلفية الرأس وخرجت من حنكه الأيمن، لم تمس أي جزء حيوي فيه. بعد مدة قصيرة عاد إلى الكتابة بحماس أكثر، وكتب ”دم الغزال”، الذي عبّر فيه عن تجربة الموت القاسية. لكن البحر ظل موضوعه الأثير؛ لأنه جزء حيوي من تجربته الطفولية، وتجربة والده البحار.