الذكرى الـ 78 لتأسيس مدرسة دار الحديث بتلمسان
منارة علم وعلماء تحدّت الاستعمار
- 2554
تسترجع تلمسان هذه الأيام الذكرى الـ 78 لافتتاح إحدى منارات العلم ومهد العلماء ومعلم تاريخي ديني أيام المحن، أيام كانت الجزائر تحت نير استعمار غاشم لا تعرف من جنوده إلا الوحشية وطمس الهوية، كما تحمل هذه الذكرى أيضا في طيّاتها رجلا وشخصية بارزة ساهمت في النهضة الجزائرية وقهرت الاستعمار الفرنسي، وجمعت شمل علماء الجزائر… هذا الرمز التاريخي هو « دار الحديث » الواقعة وسط مدينة تلمسان، التي يمر على تاريخ بنائها وتأسيسها 78 سنة، هذه المؤسسة العلمية الدينية التي توارثها التلمسانيون عن علماء كان هدفهم الوحيد هو التشييد العلمي، ونشر الوعي بشكل واسع.
وتُعتبر وثيقة ملكية دار الحديث من أعرق الوثائق التاريخية للمنطقة، وهي مسجلة بمحافظة أملاك الدولة بتاريخ 27 فيفري 1936، وعلى وجه التحديد بالمعسكر التابع لقوات الاحتلال، الذي لم يتجرأ على الدار قبل سنة 1831، وهي السنة التي كانت فيها تابعة لأملاك الأوربيين، وذلك كتعويض لهم عن ملكية خاصة بباب الحديد؛ تعزيزا لمحميات الجيش الفرنسي خوفا من الانتفاضات الشعبية ومواصلة المقاومة داخل المدينة، ولهذا ركز مخطّطو ومشيّدو دار الحديث على أن تختار هذه الساعة ليسطع منها نور المعرفة والعلم وليس من أية نقطة أخرى؛ لكونها تقع جنب حي سكني أوروبي، فوثيقة دار الحديث التي تشير إلى أهل عهدها آية من آيات القانون الحديث القديم، ورواية الإيمان والحزم والحفاظ على الثقافة الأصلية إلى يوم الدين بتلمسان، حيث تحققت بفعل إرادة سكانها الذين عزموا على شراء أرضية للمبنى بتبرع مادي جماعي للظفر بها من أجل طلب العلم، حيث تم ذكر البائع تاجر الحبوب ابن أشنهو، وهو مدير المخزن، بالإضافة إلى الجمعية الثقافية المسلمة لتلمسان بمشترى، والتي تأسست بتاريخ الفاتح من سبتمبر 1931، وتم تسليم الإيصال في 05 من نفس الشهر. كما أن العقد يتضمن قائمة بـ 171 مشتريا، وهذا يترجم العزيمة الجماعية والأخوية التي لا جدال فيها بذكر كل من ساهم مهما كانت وضعيته المالية. وقد تم تجميع ما سُجل بالعقد آنذاك؛ 125.000 فرنك فرنسي، وهي قيمة مالية ساهم فيها أيضا محامون تلمسانيون وموظفون بقطاعات البريد والنقل والبنك والتوثيق، ومعلمون في اللغة الفرنسية، ومحامون من قسنطينة وواحة الزاب والبشير الإبراهيمي، وتتراوح أسماء القائمة بين 30 إلى شخصا 40، وقد سهر التلمسانيون ومواطنون جزائريون من خارج تلمسان في عملية التشييد التي كان الشيخ البشير الإبراهيمي مديرا ومشرفا عليها، حيث جعل منها مركز إشعاع فكري ومقصد القريب والبعيد وحتى من خارج الوطن، وقد تمّت أشغال بناء المدرسة في زمن قياسي لم يجاوز السَّنة ونصف السنة بسبب العمل المتواصل الدّؤوب ليل ونهار، والإمدادات الماليّة والمادّيّة المتدفّقة من أيادي أهل تلمسان السّخيّة؛ إذ اختير لها موقع استراتيجي وسط المدينة، لتكون في مواجهة الثانويّة الفرنسيّة المسمّاة: دوسلان (Doslane) وأعلى منها، وكانت البناية مكونة من ثلاثة طوابق، تحتوي على قاعة متّسعة معَدَّة لإقامة الصَّلوات، وفوقها قاعة لإلقاء المحاضرات، وفوقها بناء يحتوي على أربعة أقسام، تزاوَل فيها دروس العلم، وبهذا الطّابق صحن، ووسط فيه بعض المرافق. وعقب الانتهاء من تشييد هذا الصرح العلمي، وجّه الشّيخ البشير دعوة عامَّة لحضور هذا الحفل إلى وجهاء وأعيان القطر الجزائريّ عبر جريدة "البصائر"، قال فيها: "ونرجو ممّن لم تصله الدّعوة أو لم نعرف عنوانه أن يعتبر هذه الدّعوة المنشورة في البصائر دعوة خاصّة...". وعيّن يوم الإثنين 22 رجب 1356 هـ الموافق لـ 27 سبتمبر 1937 ليكون يوم افتتاح دار الحديث بتلمسان، وكان يوما حافلا بهيجا مشهودا، حضره ما يزيد عن عشرين ألفا من أبناء تلمسان ومن غيرها، وكان في طليعة الوافدين المجلس الإداريّ لجمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين، يتقدّمهم رئيس الجمعيَة الشّيخ عبد الحميد بن باديس ومرافقوه وأعوانه، منهم الشّيخ العربي التّبسّي والشّيخ مبارك الميلي والأستاذ الفضيل الورتلاني وآخرون، وقد تولّى الافتتاح الشّيخ ابن باديس بعد أن سلّمه الشَّيخ البشير مفتاح المدرسة قائلاً له: "أخي الأستاذ الرَّئيس، لو علمت في القطر الجزائريّ، بل في العالم الإسلاميّ رجلاً في مثل حالتكم، له يد على العلم مثل يدكم، وفضل على النّاشئة مثل فضلكم لآثرته دونكم بفتح هذه المدرسة، ولكنّي لم أجد، فباسم تلمسان وباسم الجمعيّة الدّينيّة بالخصوص، أناولكم المفتاح، فهل لهذه المدرسة أن تتشرّف بذلك؟". وكانت للشّيخ ابن باديس كلمة ألقاها على الحاضرين بهذه المناسبة، حيّى فيها أهل تلمسان وشكرهم على ما بذلوه من جهد وأموال في تشييد هذا الصّرح، فقال لهم: "يا أبناء تلمسان، يا أبناء الجزائر، إنّ العروبة من عهد تبّع إلى اليوم تحيّيكم، وإنّ الإسلام من يوم محمّد، صلّى الله عليه وسلّم، إلى اليوم يحيّيكم، وإنّ أجيال الجزائر من اليوم إلى يوم القيامة تشكركم وتذكر صنيعكم الجميل. يا أبناء تلمسان، كانت عندكم أمانة من تاريخينا المجيد فأدّيتموها، فَنعم الأمناء أنتم، فجزاكم الله خير جزاء الأمناء، والسّلام عليكم ورحمة الله".
وكان أبرز ما ميّز هذا اليوم الَذي سمّاه الشّيخ البشير بـ "العرس العلميّ"، إلقاء الشّيخ ابن باديس أوّل درس في هذه المدرسة في موضوع الحديث الّذي شيّدت البناية لأجله، ولتكون اسما على مسمّى، فاستهلّ الشّيخ درسه بشرح حديث النّبيّ صلّى الله عليه وسلَّم المرويّ في الصّحيحين، وهو قوله صلَّى الله عليه وسلّم: "مثَل ما بعثَني الله به من الهدى والعلم"، وقد كان درسا ممتعا بشهادة من حضر، وبعد انتهائه أخرج من جيبه 500 فرنك إعانة رمزية "للدار"، ثم تبارى الناس في التبرع بما لديهم بسخاء وكرم نادرين، وشاركت النسوة بحليهن وجواهرهن. هذا، وقد قرّرت جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين بعدها تعيين الشّيخ الإبراهيمي بمقاطعة وهران وعاصمتها العلميّة القديمة تلمسان، فانتقل إليها بمعيّة أهله وأقام بها، وأحيا رسوم العلم، وأنشأ فيها مدرسة دار الحديث لتكون نواة لمشروعه العلميّ الكبير كما كانت تصوّره له الخواطر، يعيد به مجد تلمسان العلميّ، وقد اختار نخبة من المعلميّن الأكفاء للصّغار، وتولّى بنفسه تعليم الطّلبة الكبار من الوافدين وأهل البلد، وكان عدد الطّلبة يقارب الألفين، موزّعين على الأقسام والمسجد من السّادسة صباحا إلى العاشرة ليلا، وكان الشّيخ الإبراهيميّ يلقي عشرة دروس في اليوم، يبدأ بدرس في الحديث بعد الصّبح، ويختمها بدرس في التَفسير بين المغرب والعشاء، وبعد العشاء ينصرف إلى أحد النّوادي، فيلقي محاضرة في التّاريخ الإسلاميّ، والتي بدأها من الحقبة الموالية لظهور الإسلام من العصر الجاهلي إلى بداية الخلافة العبّاسيّة في بضع مئات من المحاضرات.
وعن قدوم رواد الإصلاح لمدينة تلمسان سنة 1923م للتعرف على أهل المدينة، تقرر بعد 10 سنوات من ذلك بناء هذا الصرح العلمي للحفاظ على اللغة وآثارها وخوفا من اندثارها. وفي سنة 1937م تم فتحها، وأثناء افتتاحها اندهش المستعمر الفرنسي لحضور عشرات الآلاف هذه المراسيم، والذي كان له صدى واسع في التحف الفرنسية مما أدى إلى إغلاق أقسامها بعد ثلاثة أشهر من فتحها، ثم تطرق الأستاذ محمد بومشرة في شق آخر من هذا الكتاب، للعلماء الذين توافدوا على دار الحديث، واختتم كتابه بدور هذه الدار في فجر الاستقلال، إلى أن استفادت منها وزارة التربية الوطنية والشؤون الدينية إلى غاية سنة 1978م، ولازالت إلى يومنا هذا تؤدي رسالتها المنوطة والتي رسمها رواد النهضة الجزائرية. كما دعّم الأستاذ الكتاب بصور تاريخية لبعض العلماء الذين درسوا بها أو زاروها.
وتُعتبر وثيقة ملكية دار الحديث من أعرق الوثائق التاريخية للمنطقة، وهي مسجلة بمحافظة أملاك الدولة بتاريخ 27 فيفري 1936، وعلى وجه التحديد بالمعسكر التابع لقوات الاحتلال، الذي لم يتجرأ على الدار قبل سنة 1831، وهي السنة التي كانت فيها تابعة لأملاك الأوربيين، وذلك كتعويض لهم عن ملكية خاصة بباب الحديد؛ تعزيزا لمحميات الجيش الفرنسي خوفا من الانتفاضات الشعبية ومواصلة المقاومة داخل المدينة، ولهذا ركز مخطّطو ومشيّدو دار الحديث على أن تختار هذه الساعة ليسطع منها نور المعرفة والعلم وليس من أية نقطة أخرى؛ لكونها تقع جنب حي سكني أوروبي، فوثيقة دار الحديث التي تشير إلى أهل عهدها آية من آيات القانون الحديث القديم، ورواية الإيمان والحزم والحفاظ على الثقافة الأصلية إلى يوم الدين بتلمسان، حيث تحققت بفعل إرادة سكانها الذين عزموا على شراء أرضية للمبنى بتبرع مادي جماعي للظفر بها من أجل طلب العلم، حيث تم ذكر البائع تاجر الحبوب ابن أشنهو، وهو مدير المخزن، بالإضافة إلى الجمعية الثقافية المسلمة لتلمسان بمشترى، والتي تأسست بتاريخ الفاتح من سبتمبر 1931، وتم تسليم الإيصال في 05 من نفس الشهر. كما أن العقد يتضمن قائمة بـ 171 مشتريا، وهذا يترجم العزيمة الجماعية والأخوية التي لا جدال فيها بذكر كل من ساهم مهما كانت وضعيته المالية. وقد تم تجميع ما سُجل بالعقد آنذاك؛ 125.000 فرنك فرنسي، وهي قيمة مالية ساهم فيها أيضا محامون تلمسانيون وموظفون بقطاعات البريد والنقل والبنك والتوثيق، ومعلمون في اللغة الفرنسية، ومحامون من قسنطينة وواحة الزاب والبشير الإبراهيمي، وتتراوح أسماء القائمة بين 30 إلى شخصا 40، وقد سهر التلمسانيون ومواطنون جزائريون من خارج تلمسان في عملية التشييد التي كان الشيخ البشير الإبراهيمي مديرا ومشرفا عليها، حيث جعل منها مركز إشعاع فكري ومقصد القريب والبعيد وحتى من خارج الوطن، وقد تمّت أشغال بناء المدرسة في زمن قياسي لم يجاوز السَّنة ونصف السنة بسبب العمل المتواصل الدّؤوب ليل ونهار، والإمدادات الماليّة والمادّيّة المتدفّقة من أيادي أهل تلمسان السّخيّة؛ إذ اختير لها موقع استراتيجي وسط المدينة، لتكون في مواجهة الثانويّة الفرنسيّة المسمّاة: دوسلان (Doslane) وأعلى منها، وكانت البناية مكونة من ثلاثة طوابق، تحتوي على قاعة متّسعة معَدَّة لإقامة الصَّلوات، وفوقها قاعة لإلقاء المحاضرات، وفوقها بناء يحتوي على أربعة أقسام، تزاوَل فيها دروس العلم، وبهذا الطّابق صحن، ووسط فيه بعض المرافق. وعقب الانتهاء من تشييد هذا الصرح العلمي، وجّه الشّيخ البشير دعوة عامَّة لحضور هذا الحفل إلى وجهاء وأعيان القطر الجزائريّ عبر جريدة "البصائر"، قال فيها: "ونرجو ممّن لم تصله الدّعوة أو لم نعرف عنوانه أن يعتبر هذه الدّعوة المنشورة في البصائر دعوة خاصّة...". وعيّن يوم الإثنين 22 رجب 1356 هـ الموافق لـ 27 سبتمبر 1937 ليكون يوم افتتاح دار الحديث بتلمسان، وكان يوما حافلا بهيجا مشهودا، حضره ما يزيد عن عشرين ألفا من أبناء تلمسان ومن غيرها، وكان في طليعة الوافدين المجلس الإداريّ لجمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين، يتقدّمهم رئيس الجمعيَة الشّيخ عبد الحميد بن باديس ومرافقوه وأعوانه، منهم الشّيخ العربي التّبسّي والشّيخ مبارك الميلي والأستاذ الفضيل الورتلاني وآخرون، وقد تولّى الافتتاح الشّيخ ابن باديس بعد أن سلّمه الشَّيخ البشير مفتاح المدرسة قائلاً له: "أخي الأستاذ الرَّئيس، لو علمت في القطر الجزائريّ، بل في العالم الإسلاميّ رجلاً في مثل حالتكم، له يد على العلم مثل يدكم، وفضل على النّاشئة مثل فضلكم لآثرته دونكم بفتح هذه المدرسة، ولكنّي لم أجد، فباسم تلمسان وباسم الجمعيّة الدّينيّة بالخصوص، أناولكم المفتاح، فهل لهذه المدرسة أن تتشرّف بذلك؟". وكانت للشّيخ ابن باديس كلمة ألقاها على الحاضرين بهذه المناسبة، حيّى فيها أهل تلمسان وشكرهم على ما بذلوه من جهد وأموال في تشييد هذا الصّرح، فقال لهم: "يا أبناء تلمسان، يا أبناء الجزائر، إنّ العروبة من عهد تبّع إلى اليوم تحيّيكم، وإنّ الإسلام من يوم محمّد، صلّى الله عليه وسلّم، إلى اليوم يحيّيكم، وإنّ أجيال الجزائر من اليوم إلى يوم القيامة تشكركم وتذكر صنيعكم الجميل. يا أبناء تلمسان، كانت عندكم أمانة من تاريخينا المجيد فأدّيتموها، فَنعم الأمناء أنتم، فجزاكم الله خير جزاء الأمناء، والسّلام عليكم ورحمة الله".
وكان أبرز ما ميّز هذا اليوم الَذي سمّاه الشّيخ البشير بـ "العرس العلميّ"، إلقاء الشّيخ ابن باديس أوّل درس في هذه المدرسة في موضوع الحديث الّذي شيّدت البناية لأجله، ولتكون اسما على مسمّى، فاستهلّ الشّيخ درسه بشرح حديث النّبيّ صلّى الله عليه وسلَّم المرويّ في الصّحيحين، وهو قوله صلَّى الله عليه وسلّم: "مثَل ما بعثَني الله به من الهدى والعلم"، وقد كان درسا ممتعا بشهادة من حضر، وبعد انتهائه أخرج من جيبه 500 فرنك إعانة رمزية "للدار"، ثم تبارى الناس في التبرع بما لديهم بسخاء وكرم نادرين، وشاركت النسوة بحليهن وجواهرهن. هذا، وقد قرّرت جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين بعدها تعيين الشّيخ الإبراهيمي بمقاطعة وهران وعاصمتها العلميّة القديمة تلمسان، فانتقل إليها بمعيّة أهله وأقام بها، وأحيا رسوم العلم، وأنشأ فيها مدرسة دار الحديث لتكون نواة لمشروعه العلميّ الكبير كما كانت تصوّره له الخواطر، يعيد به مجد تلمسان العلميّ، وقد اختار نخبة من المعلميّن الأكفاء للصّغار، وتولّى بنفسه تعليم الطّلبة الكبار من الوافدين وأهل البلد، وكان عدد الطّلبة يقارب الألفين، موزّعين على الأقسام والمسجد من السّادسة صباحا إلى العاشرة ليلا، وكان الشّيخ الإبراهيميّ يلقي عشرة دروس في اليوم، يبدأ بدرس في الحديث بعد الصّبح، ويختمها بدرس في التَفسير بين المغرب والعشاء، وبعد العشاء ينصرف إلى أحد النّوادي، فيلقي محاضرة في التّاريخ الإسلاميّ، والتي بدأها من الحقبة الموالية لظهور الإسلام من العصر الجاهلي إلى بداية الخلافة العبّاسيّة في بضع مئات من المحاضرات.
دار الحديث بين الأمس واليوم
لقد مرّت دار الحديث بمراحل طيلة وجودها، بدءا بأمر إغلاقها الذي أصدره الوالي العامّ الفرنسيّ بعد ثلاثة أشهر من فتحها، وقد تحدّى الشَّيخ البشير السّلطات الفرنسيّة ورفض التّوقيع على محضر الأمر بإغلاق المدرسة، وكان جزاءه إثر ذلك أن قُدّم للمحاكمة وقُضي عليه بغرامة ماليّة، وانتهاء بإغلاق أبوابها في وجوه الطّلبة إبّان الثّورة التّحريريّة من عام 1956م إلى 1962م، واتّخذها العسكر الفرنساوي وقتئذ ثكنة له، وكانت فرصته في الاستيلاء على أرشيف المدرسة، حيث لم يبق منه الآن أثر يُذكر، وزج بمؤسسها البشير الإبراهيمي في السجن، فيما التحق طلبتها بالجبال للمشاركة في الثورة التحريرية، والذين استُشهد منهم 80 تلميذا مجاهدا في سبيل العلم والوطن، فأعيد فتحها غداة الاستقلال، واستمر نهج أثرها على طريقة العلاّمتين "ابن باديس والإبراهيمي"، حيث عرفت دار الحديث بعدها توسعة أضيفت إلى البناية القديمة بعد عشر سنوات من بنائها عام 1947م، ومعالم هذه التّوسعة بادية اليوم لزائريها، وبعد الاستقلال لم تعد المدرسة إلى نشاطها المعهود كما كانت عليه زمن الشّيخ البشير، وظلت على تلك الحال من الرّكود والجمود، حتّى انتعشت من جديد – نسبيّا – بتأسيس معاهد التّعليم الأصليّ في عهد مولود قاسم رحمه الله وزير الأوقاف والتّعليم الأصليّ، لكن سرعان ما ألغي نظام ذلك التّعليم واستُبدل بالتّعليم العامّ المعروف الآن. ومن المعلوم أنّ للمدرسة عقد ملكيّة خاص بأبناء تلمسان وليست وقفا عامّا، بُنيت بمال الأمّة وستبقى للأمّة، كما نصّ على ذلك الشّيخ الإبراهيمي في كلمته عند افتتاح المدرسة؛ "إنّ أكبر دعامة تقوم عليها النّهضة الجزائريّة الحديثة هي المدارس الحرّة بمال الأمّة، وقد قامت تلمسان بقسطها من هذا الواجب..."؛ فدار الحديث العلمية إذا عدنا إلى الوراء بعد الحركة الثقافية التي خاضتها ذات المدرسة أمام مرأى ومسمع المستعمر، احتلت مكانة مرموقة في العلم، بدليل الإحصائيات الإجمالية، حسب جريدة البصائر في عددها 202 الصادر في 10 محرم 1372 الموافق لـ 24 سبتمبر 1952، فإن الناجحين بكل المدارس 123 ناجحا، أما الناجحون بدار الحديث في نفس السنة فـ 35 ناجحا، وهذا يعني أنها مثلت ثلث المجموع العام على مستوى الوطن، وهي الآن في الوقت الحاضر، قد تخصّصت في التّعليم التّحضيريّ، وتضمّ نحو 300 إلى 400 تلميذ، يؤطّرهم عشر معلمّات ومدير قائم عليها، ويدفع التّلاميذ مبلغا سنويّا على شكل رواتب للمعلمّات. وبالمدرسة مسجد تقام فيه الصّلوات الخمس وصلاة الجمعة، وبها مكتبة متواضعة يؤمّها بعض الدّارسين للمطالعة ومراجعة الدّروس، وفيها حجرة مطلّة على الشّارع العام، كانت مكتبا للشّيخ يزاول فيها أشغاله العلميّة والإداريّة، مع العلم أن عدد التلاميذ الذين سجلوا بها قبيل الثورة التحريرية، 18 ألف طالب، مقسمين إلى أربعة أفواج بين النهار والمساء، ويزاولون الدراسة بالمدارس الفرنسية. كما عرفت دار الحديث إشعاعا علميا لما كانت تابعة لوزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية، وقد توقفت عن هذه المهام سنة 1972، أما اليوم فقد أصبح عملها قائما على استقبال 400 تلميذ سنويا بالمدرسة التحفيظية لتدريس أحكام التلاوة للنساء وتقديم دروس محو الأمية، إلى جانب شعائر تعبدية. كما استفادت المدرسة في المدة الأخيرة، من دعم ماليّ لإعادة ترميم ما هو آيل للزّوال والسّقوط، وعسى أن يُتبع ذلك بما يحيي رسالتها التي من أجلها أنشئت، فتستعيد اسمها السّاطع ومجدها الضّائع بإحياء دروس العلم والوعظ والإرشاد، وتربية النّاشئة وفق الأصول والآداب الإسلاميّة، وأملنا في الله جل وعلا كبير أن تتحقّق أمنية الشّيخ البشير الإبراهيمي وإخوانه من جمعيّة العلماء وسائر المحبّين لهم والمعتنين بجهودهم وما خلّفوه من الموروث العلمي والأدبي والتّاريخي، فرحم الله الشّيخ البشير ورفع درجته في عليّين... ولتبق دار الحديث إلى يومنا هذا شاهدة تنوّر الأجيال وتصنع الرجال بكل فخر واعتزاز."دار الحديث العامرة لتلمسان" كتاب للأستاذ محمد بومشرة
صدر عن مطبعة مزوار بمدينة الوادي كتاب للأستاذ محمد بومشرة ـ وهو عضو بالجمعية الدينية الثقافية والعلمية بمدرسة دار الحديث بتلمسان ـ بعنوان "دار الحديث العامرة لتلمسان"، تحدّث فيه الأستاذ من خلال 93 صفحة، عن هذه الدار أو المعلم بأنها ذاكرة شعب وذاكرة أمة؛ لأنها سلسلة من الأحداث المترابطة فيما بينها، ولا يمكن تجاوزها؛ كونها افتُتحت على يد العلاّمة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله؛ باعتبارها العمود الأساس في توجيه وترشيد الدعوة بالغرب الجزائري، والمرجع الأول للفتوى بولاية تلمسان. وقد تحدّث الأستاذ بومشرة في كتابه عن نشأة هذه الدار منذ وضع حجرها الأساس إلى غاية تدشينها وافتتاح أبوابها، كما تطرق لتاريخ سكان تلمسان، الذين قال فيهم الرحّالة الألماني فيلهلمشيبر حين زار الجزائر في أواخر سنة 1831م، "إنني بحثت قصدا عن عربي واحد يجهل القراءة والكتابة، غير أنني لم أعثر عليه، لكن وجدت ذلك في أوربا الجنوبية...".وعن قدوم رواد الإصلاح لمدينة تلمسان سنة 1923م للتعرف على أهل المدينة، تقرر بعد 10 سنوات من ذلك بناء هذا الصرح العلمي للحفاظ على اللغة وآثارها وخوفا من اندثارها. وفي سنة 1937م تم فتحها، وأثناء افتتاحها اندهش المستعمر الفرنسي لحضور عشرات الآلاف هذه المراسيم، والذي كان له صدى واسع في التحف الفرنسية مما أدى إلى إغلاق أقسامها بعد ثلاثة أشهر من فتحها، ثم تطرق الأستاذ محمد بومشرة في شق آخر من هذا الكتاب، للعلماء الذين توافدوا على دار الحديث، واختتم كتابه بدور هذه الدار في فجر الاستقلال، إلى أن استفادت منها وزارة التربية الوطنية والشؤون الدينية إلى غاية سنة 1978م، ولازالت إلى يومنا هذا تؤدي رسالتها المنوطة والتي رسمها رواد النهضة الجزائرية. كما دعّم الأستاذ الكتاب بصور تاريخية لبعض العلماء الذين درسوا بها أو زاروها.