زاوية «بن الشيخ الحسين» بسيدي خليفة
منظمومة دينية واجتماعية وثقافية متكاملة

- 1303

ترتبط زاوية «بن الشيخ الحسين» بأعالي بلدة سيدي خليفة، على بعد 23 كلم عن مدينة ميلة، بماض عريق استوطن في عمق الذاكرة، وأصبحت ذات صيت يتجاوز حدودها المحلية لما لها من مكانة دينية واجتماعية متكاملة جعلتها منارة يقصدها الناس من كل الجهات.
تعد هذه الزاوية منذ تأسيسها عام 1818 منبرا للعلم والعمل وللدين والدنيا، على حد تعبير بعض أبنائها والمهتمين بمسيرتها الزاخرة بالأعمال الجليلة في مجال تحفيظ القرآن الكريم والعلوم الدينية وأصول الفقه ومحاربة الأمية، إلى جانب التكافل الاجتماعي والسعي لإصلاح ذات البين.
وعلى عكس الكثير من الزوايا الأخرى عبر الوطن، فإن زاوية بن الشيخ الحسين لم يعرف لها انتماء لإحدى الطرق السائدة بالجزائر، كما لا تلتزم بطقوس يؤديها المريدون، إذ ركزت وصية مؤسسها الأول الشيخ بن الشيخ الحسين (1786 - 1849 ) لأبنائها على «اتباع الكتاب والسنة ومنهج الاعتدال».
كانت أولى أعمال مؤسس الزاوية -حين استقرار عائلته بمنطقة سيدي خليفة الحالية بعد ما صال بمناطق أخرى، من بينها ابن زياد بقسنطينة، ثم فرجيوة بشمال ميلة- بناء مسجد يجمع الناس حوله، كما يذكر ذلك الشيخ محمد بن الشيخ الحسين أحد مشايخ الزاوية الحاليين.
كان المسجد منطلقا لتأسيس «منظمومة دينية اجتماعية ثقافية متكاملة» لم تكتف فقط بتعليم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، بل امتد العمل ليشمل آداب المعاملة، وفك المنازعات ومحاربة الأمية والجوع واستقبال الوافدين وعابري السبيل، إلى جانب استغلال أراضي «الوقف» للزاوية، حيث كانت الفلاحة «بمثابة عبادة».
طراز معماري أصيل
كان للشيخ ـ مؤسس الزاوية ـ خمسة أولاد هم؛ علي المدعو (علاوة) وحمو وعبود وأحمد والشيخ الصالح، وكانت تحتضنهم الدار الكبيرة مثلما يطلق عليها.
ومع تزايد أعداد العائلة، شيد كل ولد من أبناء الشيخ الحسين مساكن خاصة بهم، وفقا للنمط المعماري العثماني الذي كان سائدا آنذاك (القرن التاسع عشر الميلادي).
برزت هذه المنازل في شكل «قصور» تتوفر على الكثير من الغرف، وقد اختلفت تسميات هذه المباني وتنوعت بحسب طبيعة دورها في بناءات الزاوية، من بينها «المجلس» و»المقصورة» المخصصة لإيواء أشخاص كثيرين، وكذا «وسط الدار» و»الشارداق» (مكان لتخزين ووضع الأشياء) والدكانة ويسمى المخبأ، و»المسراق» ويدعى الممر، فضلا عن «لعلي»، وهو مبيت خاص بالشبان بعد بلوغهم لتفادي الاختلاط، مزود بعدد من الغرف.
ومن بين مرافق الزاوية أيضا «دار الضياف» وكذا بيوت خاصة بعابري السبيل الذين خصصت لهم «دار البياتة»، حتى يغادروها أو يظلوا بها إن استطابوا المقام هناك.
ومنذ تأسيسها سنة 1818، يقول رياض بن الشيخ الحسين، أستاذ بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية في قسنطينة، ظلت هذه الزاوية قبلة لطلبة العلم الوافدين لحفظ القرآن وتعلم السنة النبوية من كل مناطق البلاد، ويتم التكفل بهم كليا من حيث الإيواء والإطعام ونظام استقبال جد فعال.
تحدث مشايخ الزاوية عن شخصيات علمية ودينية ساهمت في مجهودها التعليمي والديني، على غرار الشيخ حمدان بلونيس مدرس العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس ونجله الشيخ محمد الطاهر بلونيس ـ رحمهم الله ـ وكذا الشيخ المصلح عبد القادر الميجاوي، كما كان يتردد عليها العلامة بن باديس وعلاقته الطيبة بعائلة الزاوية، لما وجد عندها من اعتدال ووسطية.
ومما ذكره المشايخ أيضا بأن عددا من طلبة الزاوية تتلمذوا بمعهد الشيخ بن باديس منذ عام 1948، من بينهم أحد المشايخ الحاليين للزاوية عبد العليم بن الشيخ الحسين.
ومن أهم أعلام الزاوية؛ ابنها المميز الشيخ عباس بن الشيخ الحسين عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الذي لعب دورا مهما في حياة الجمعية، خاصة في أربعينيات القرن الماضي.
سهل الطابع الديني والعلمي للزاوية التي نأت بنفسها عن كل ما هو مريب من شعوذة ودجل، في حصول علاقة طيبة بين الزاوية وزعماء الإصلاح الديني وجمعية العلماء المسلمين بقيادة الشيخ عبد الحميد بن باديس ورفاقه.
ولا زالت الأذكار والأوراد والصيغ المحافظ عليها إلى حد الآن بزاوية الشيخ الحسين في المناسبات «سنية معتدلة»، على غرار صيغة عقد الزواج الموحدة وخطبة العيد، مثلا.
المخطوطات ثروة زاوية بن الشيخ الحسين
من دلائل اهتمام الزاوية بالعلم، عنايتها على مر العقود بالمخطوط بشتى أنواعه، منها علوم الشريعة وأصول الفقه والسنة والعقيدة، إلى جانب علوم النحو والصرف واللغة العربية عموما، وكذا علم الفلك والطب التقليدي. وقد بلغ تعداد هذه المخطوطات الثمينة في السابق 6 آلاف وثيقة، من بينها كتاب يقرأ من عدة اتجاهات، بحيث يقدم في كل اتجاه علما معينا.
كانت زاوية بن الشيخ الحسين تقتني هذه المخطوطات من مالها الخاص لتزويد مكتبتها بنفائس العلوم التي توضع في متناول طلبتها للتعلم والتدريس، ويسجل شراءها لمكتبة الشيخ لفقون بقسنطينة خلال القرن التاسع عشر .
لكن هذه الثروة القيمة تناقصت وتراجعت بشكل مطرد لدرجة أنها لا تتعدى حاليا 320 مخطوطا، مثلما أشير إليه، بسبب التلف الناجم عن الظروف السيئة للحفظ وأيضا لسوء التعامل معها من قبل الباحثين والمقبلين من كل حدب وصوب، كما أن العديد ممن استعملوا هذه المخطوطات لم يوفوا بإرجاعها للزاوية.
وللحفاظ على ما تبقى من هذه الثروة من المخطوطات، تم نقلها إلى مكتبة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، لوضعها في متناول الطلبة والباحثين دون إلحاق أي ضرر بها، وفي ظروف حفظ ملائمة.
للإشارة، لاتزال زاوية بن الشيخ الحسين تمارس بعض أدوارها المعهودة، ومن أبرزها تحفيظ القرآن الكريم والتكافل الاجتماعي واستضافة الزوار والطلبة.
وعلى مدى تاريخها منذ مطلع القرن التاسع عشر ومرورها بفترة الاستعمار الصعبة، تمكنت الزاوية من أداء دورها بفضل مواردها الاقتصادية الخاصة من «وقف» الأراضي الفلاحية التي بلغت مساحتها حاليا 1000 هكتار، مخصصة في أغلبها لزراعة الحبوب.