للمخرج أحمد رزاق وإنتاج المسرح الوطني
هل أخذ الجمهور "آجر" الفرجة في "جنازة أيوب"؟
- 123
دليلة مالك
قدّم المخرج أحمد رزاق أحدث أعماله المسرحية، الموسومة "جنازة أيوب"، على خشبة المسرح الوطني الجزائري "محي الدين بشطارزي"، في عرضين متتاليين مساء الجمعة والسبت، كان واضحًا منذ اللحظة الأولى أنّ رزاق يعود إلى الخشبة وفي جعبته سؤال كبير: هل لا يزال المسرح قادرًا على ملامسة وجدان الناس وسط ما يعيشه القطاع من ضيق ومتاعب؟.
افتتح العرض بمشهد ثقيل الإيقاع، عبارة عن نعش الأب في منتصف الخشبة، وأفراد العائلة يحيطون به في حالة حزن مكتوم. لحظة تراجيدية صافية أربكت المتفرّجين بما حملته من صدق وتجريد، لكن سرعان ما انقلب المزاج العام نحو كوميديا سوداء تُدار بذكاء، دون أن تفقد الحدث ثقله. بدا أنّ رزاق يُمسك بخيطٍ دقيق بين الألم والضحك، في محاولة لجعل الجمهور يرى وجعه الخاص عبر مرآة غير مباشرة، فلا التهويل ولا التهوين يجدان مكانهما هنا، بل مقاربة نقدية تضع المتلقي أمام أسئلته الأخلاقية والاجتماعية.
لأنّ المسرح ابن واقع الناس، جاءت قضايا الميراث وتقسيم المال وحقوق النساء في مجتمع ما تزال الذهنيات الذكورية تسيّره، لتزداد ثِقلاً حين تُطرح في سياق "جنازة" تعود فيها روح الميت "أيوب" (الهاني محفوظ) لكشف خفايا العائلة. هذا البناء الرمزي سمح للمشهد بتوليد مستويات متعدّدة من القراءة: من العلاقات المختلّة داخل الأسرة إلى صورة المجتمع نفسه وهو يعيش تناقضاته اليومية. بدا الجمهور قريبًا من تلك العائلة، كأنّه يعرفها، وكأنّ تفاصيل خلافاتها ليست بعيدة عن يومياته الخاصة.
لعلّ أكثر ما شدّ الانتباه هو الطابع الجماعي للعرض. أكثر من ثلاثة وعشرين ممثلاً يتقاسمون الخشبة، في وقتٍ باتت فيه معظم الإنتاجات تعتمد على عروض صغيرة العدد لأسباب مادية ولوجيستية. رزاق اختار العكس، أراد أن يمنح الفرصة لممثلين شباب ومخضرمين، وأن يعيد إلى المسرح روح العمل الجماعي التي طال غيابها، لكن هل حقا كان يحتاج كلّ ذلك العدد لتناول القضايا سالفة الذكر، وهل كان توزيع الممثلين على الخشبة متوازنا دراميا وجماليا؟.
من ناحية ثانية، بدا واضحًا في القاعة أنّ الجمهور أخذ "آجره" في هذه "الجنازة"، من خلال تفاعله المباشر، ضحكات متتابعة، صمت في اللحظات الحسّاسة، ثم عودة إلى التأمّل. بدا أنّ العرض فكّك الجدار بين الممثلين والمتفرّجين، وأنّ الناس وجدوا في الحوار واللغة والإيقاع ما يشبههم. هو انخراط في التجربة أكثر منه تلقيًا لها، وهو ما لا يتحقّق إلاّ عندما يلتقط العمل نبض الجمهور بدقة ويعيده إليه في صورة فنية حية.
بدا نص "جنازة أيوب" أقلّ إحكاما من النصوص التي قدّمها أحمد رزاق خلال العقد الأخير، مثل "طرشاقة" و«كشرودة" و«خاطيني"، تلك الأعمال رسّخت اسمه بمتون درامية متماسكة، حتى وهي تتحرّك داخل فضاء الكوميديا. أما في "جنازة أيوب"، فقد ظهر النص أكثر بساطة وأقل توترا دراميا مقارنة بما عهدناه منه، وكأنّ الرهان كان موجَّهًا نحو الإخراج والفرجة أكثر من تعميق البناء النصّي.
مع ذلك، لم ينعكس هذا القصور النسبي على حضور الجمهور ولا على حرارة التفاعل داخل القاعة. فقد نجح رزاق، مرة أخرى، في ملء المسرح الوطني الجزائري خلال عرضين كاملين. والأهم أنّ العرض الشرفي، ولأوّل مرة منذ سنوات، لم يكن مجانيًا، دون أن يشكّل ذلك عائقا أمام جمهور واسع توافد من ولايات قريبة وبعيدة، فقط لأنّ اسم أحمد رزّاق بالنسبة لهم يكفي ليضمن فرجة تستحق ثمن التذكرة وعنـاء الطريق.