”فسيفساء” بدري محمد زغلول
همسات شجية خارج العتمة
- 1214
مريم. ن
يعكس معرض ”فسيفساء” للفنان بدري محمد زغلول، مدى نضج التجربة التشكيلية عند هذا الطبيب البيطري المولع بالتراث والتاريخ والواعي بمتغيّرات الظرف والمكان، فله بصمة حضور في خطاب فني أبعد ما يكون عن المحاججة والمباشراتية، مبني على متلازمة الحوار والجمال.
عبر كامل لوحاته المعروضة في المركز الثقافي ”مصطفى كاتب” إلى غاية 14 أفريل الجاري، يحرص الفنان بدري على التركيز على مضمون اللوحة من خلال رسائل متعدّدة المواضيع، تتناول شتى قضايا الراهن العربي وتتناول التراث الجزائري الأصيل، الثري بالمعالم والجمال، وتبدو لوحات هذا الفنان كأنها في حوار مفتوح مع الجمهور تلتقطه رغما عنه، ليثبت في مكانه قبالة اللوحة مباشرة ينتظر ما تقوله في وشوشة تنبعث منها المعاني والألوان، وغالبا ما تغيب فيها الأنوار الكاشفة، مما يضفي على العين نوعا من الهدوء والسكينة.
في لوحة ”اللحن الصامت”، يتجلى الأسلوب التجريدي بألوانه المائية الداكنة المتداخلة، كأنّها تعزف نفس السيمفونية في تناغم مدهش يكاد يسمع، وتتشكّل من خلال حركة التداخل أشكال تشبه أعشاب البحر المستوطنة في الأعماق، بالتالي لا يسمع هذه الألحان إلا الوجدان الحساس والصافي.
وعلى عكس الهدوء والجمال، تبرز للزائر لوحة غريبة تحمل عنوان ”سر الديمقراطية على الطريقة الأمريكية”، حيث تزداد في هذه اللوحة اللغة الداكنة المترجمة لعمق المأساة الإنسانية التي توقّع عبر العالم باسم الديمقراطية، وهنا يوظّف الفنان الأسلوب التعبيري معتمدا بشكل أساسي على اللون الرمادي بكل تدرّجاته وظلاله، مع حضور بعض الألوان الفاترة واللون الأبيض، ويرصد من خلالها مدينة عربية تشبه مدينة بغداد كرمز لباقي المدن العربية، بها البنايات والحياة التي تعم كل بيت وشارع، لتلتقط الريشة عن قرب حالة دمار سائد تثبته المآذن المدمّرة والقباب المنهارة والدخان المتصاعد كالعواصف الهائجة، ليصل إلى أعلى اللوحة، حيث تتطاير قبعات جنود المارينز، بالتالي فإنّ الديمقراطية لعبة قذرة إذا كان اللاعب أمريكيا.
يعود الفنان إلى هدوء الجزائر ليدخلها من بوابة الصحراء في لوحة أسماها ”سحر الجنوب”، عرض فيها حياة التوارق المتجولين بحرية على أرض الأهقار، يلبسون أجمل اللباس ويمتطون إبلهم في مسيرة ليلية ساحرة، وهنا استعان الفنان بالنور المنبعث من ضوء القمر والأبيض الناصح الذي يميّز لباس التوارق والجمال.
ينتقل الفنان إلى مسقط رأسه مدينة تبسة العريقة من خلال لوحة ”تبسة عبر العصور”، يتوسطها منعرج عريض تنتصب على حوافه المعالم الأثرية والثقافية التي طبعت عمر هذه المدينة ابتداء من بوابة كركلا والآثار الرومانية إلى المساجد وغيرها، بينما بسطت على سقف اللوحة الزرابي المطرّزة بالرموز والأشكال الهندسية ذات الدلالات الثقافية.
لوحة ”في السوق” تبرز فيها جماعات رجالية بالعمائم والبرانيس، وفي عمارة إسلامية محلية يعيشون متعة التسوّق ويعرض التجار منهم السلع من كلّ الأصناف، ويكتشف في ”الطبيعة الغاضبة” الزائر الاصطدام الحاد بين الأغصان العملاقة والأشجار والنباتات بفعل تقلّبات الجو، لكن ذلك لا يمنع من التمتّع بجمال الطبيعة حتى وهي في قمة غضبها، وهنا استخدم الفنان بتحكّم كبير الألوان المتداخلة التي كان أغلبها من النوع الداكن.
وفي لوحة مجاورة، يتفاجأ الزائر بالأحمر الصارخ والبرتقالي الداكن اللذين كانا الأقدر على توصيف ”الضغوط” والتوتر الذي يحاصر الإنسان من كلّ الاتجاهات، متسلّلا عبر خيوط تنسج فخها لتغلق كل المنافذ، فيما تعود لوحة ”السوق” بمشهد جديد يشبه المشهد المسرحي، يضم نساء كأنهن يرقصن بلباسهن التقليدي وفيها المداح بالبندير والقرويات بالجرار والتجار بالزرابي، بالتالي اكتملت صورة السوق الجزائرية الأصيلة وتفنّن السيد بدري في استعراض الألوان والظلال رغم ابتعاده عن الصاخب منها.
ومن الرسائل الإنسانية التي حرص هذا الفنان المخضرم على طرحها فنيا، العدالة الاجتماعية من خلال لوحة حملت نفس الكلمة وبدت كأنّها مركّبة أو مجزأة تضم المرأة التقليدية والطبيعة وبعض الرموز العلمية والتاريخية لتؤكّد بأنّ التفرقة الاجتماعية مصطنعة ولا محلّ لها من الطبيعة.
وصور بدري في لوحة ”معاناة الفنانين”، الفنانين في قمة البؤس والشحوب يصارعون العواصف والزوابع ورغم ذلك يواصلون العزف على الكمان وإمساك الريشة والابتسام عند التمثيل، وهو دليل على مدى العطاء والصبر من أجل رسالة نبيلة، وهنا يحرص بدري على رسم أدوات الفن من كمان وقناع مسرح وريشة باللون الفاتح المائل إلى البياض، باعتباره نورا وثقافة تخدم الإنسان والمجتمع.
يعرض الفنان أيضا ”تعاسة قارة” ممثلة في امرأة عجوز شاحبة بائسة تحمل سمات الفقر تجلس وهي تتأمّل حال أبنائها المنهكين بفعل الفقر والجوع، وهو رمز القارة الإفريقية التي ورثت وزر الاستعمار، وتنسج ”شبكة عنكبوت” بخيوطها لتحاصر المدن العربية، منها مثلا صنعاء والقدس ومكة ودمشق ومدنا مغاربية تحمل نفس التاريخ والجغرافيا والهوية، وتتراءى في خفية السلاسل التي ترمز إلى الاستعمار، وتحمل لوحة أخرى الأمل وهي ”العودة بعد القصف” كدليل على انتصار الثورة التحريرية المجيدة التي افتكت الحرية لتظهر صورة جماعية لعائلة قروية عادت لديارها.
مواضيع أخرى استعرضها الفنان كان منها ”حرية التعبير” المجسّدة من خلال الصحافة التي تكشف المستور وتفضحه للرأي العام عبر المقالات والتحقيقات وأفواه شخوص رجال الإعلام.
للتذكير، بدري محمد زغلول فنان عصامي ولد في ماي 1946 بتبسة، وهو طبيب بيطري متحصّل على شهادة دكتوراه من جامعة المجر، حصل على التوجيه في الفن من طرف عدّة فنانين كبار، منهم محمد إسياخم وفارس بوحاتم وباية والهادي سلمي، يعرض أعماله منذ سنة 1984، كما سبق له أن أصدر قصصا للأطفال.
عبر كامل لوحاته المعروضة في المركز الثقافي ”مصطفى كاتب” إلى غاية 14 أفريل الجاري، يحرص الفنان بدري على التركيز على مضمون اللوحة من خلال رسائل متعدّدة المواضيع، تتناول شتى قضايا الراهن العربي وتتناول التراث الجزائري الأصيل، الثري بالمعالم والجمال، وتبدو لوحات هذا الفنان كأنها في حوار مفتوح مع الجمهور تلتقطه رغما عنه، ليثبت في مكانه قبالة اللوحة مباشرة ينتظر ما تقوله في وشوشة تنبعث منها المعاني والألوان، وغالبا ما تغيب فيها الأنوار الكاشفة، مما يضفي على العين نوعا من الهدوء والسكينة.
في لوحة ”اللحن الصامت”، يتجلى الأسلوب التجريدي بألوانه المائية الداكنة المتداخلة، كأنّها تعزف نفس السيمفونية في تناغم مدهش يكاد يسمع، وتتشكّل من خلال حركة التداخل أشكال تشبه أعشاب البحر المستوطنة في الأعماق، بالتالي لا يسمع هذه الألحان إلا الوجدان الحساس والصافي.
وعلى عكس الهدوء والجمال، تبرز للزائر لوحة غريبة تحمل عنوان ”سر الديمقراطية على الطريقة الأمريكية”، حيث تزداد في هذه اللوحة اللغة الداكنة المترجمة لعمق المأساة الإنسانية التي توقّع عبر العالم باسم الديمقراطية، وهنا يوظّف الفنان الأسلوب التعبيري معتمدا بشكل أساسي على اللون الرمادي بكل تدرّجاته وظلاله، مع حضور بعض الألوان الفاترة واللون الأبيض، ويرصد من خلالها مدينة عربية تشبه مدينة بغداد كرمز لباقي المدن العربية، بها البنايات والحياة التي تعم كل بيت وشارع، لتلتقط الريشة عن قرب حالة دمار سائد تثبته المآذن المدمّرة والقباب المنهارة والدخان المتصاعد كالعواصف الهائجة، ليصل إلى أعلى اللوحة، حيث تتطاير قبعات جنود المارينز، بالتالي فإنّ الديمقراطية لعبة قذرة إذا كان اللاعب أمريكيا.
يعود الفنان إلى هدوء الجزائر ليدخلها من بوابة الصحراء في لوحة أسماها ”سحر الجنوب”، عرض فيها حياة التوارق المتجولين بحرية على أرض الأهقار، يلبسون أجمل اللباس ويمتطون إبلهم في مسيرة ليلية ساحرة، وهنا استعان الفنان بالنور المنبعث من ضوء القمر والأبيض الناصح الذي يميّز لباس التوارق والجمال.
ينتقل الفنان إلى مسقط رأسه مدينة تبسة العريقة من خلال لوحة ”تبسة عبر العصور”، يتوسطها منعرج عريض تنتصب على حوافه المعالم الأثرية والثقافية التي طبعت عمر هذه المدينة ابتداء من بوابة كركلا والآثار الرومانية إلى المساجد وغيرها، بينما بسطت على سقف اللوحة الزرابي المطرّزة بالرموز والأشكال الهندسية ذات الدلالات الثقافية.
لوحة ”في السوق” تبرز فيها جماعات رجالية بالعمائم والبرانيس، وفي عمارة إسلامية محلية يعيشون متعة التسوّق ويعرض التجار منهم السلع من كلّ الأصناف، ويكتشف في ”الطبيعة الغاضبة” الزائر الاصطدام الحاد بين الأغصان العملاقة والأشجار والنباتات بفعل تقلّبات الجو، لكن ذلك لا يمنع من التمتّع بجمال الطبيعة حتى وهي في قمة غضبها، وهنا استخدم الفنان بتحكّم كبير الألوان المتداخلة التي كان أغلبها من النوع الداكن.
وفي لوحة مجاورة، يتفاجأ الزائر بالأحمر الصارخ والبرتقالي الداكن اللذين كانا الأقدر على توصيف ”الضغوط” والتوتر الذي يحاصر الإنسان من كلّ الاتجاهات، متسلّلا عبر خيوط تنسج فخها لتغلق كل المنافذ، فيما تعود لوحة ”السوق” بمشهد جديد يشبه المشهد المسرحي، يضم نساء كأنهن يرقصن بلباسهن التقليدي وفيها المداح بالبندير والقرويات بالجرار والتجار بالزرابي، بالتالي اكتملت صورة السوق الجزائرية الأصيلة وتفنّن السيد بدري في استعراض الألوان والظلال رغم ابتعاده عن الصاخب منها.
ومن الرسائل الإنسانية التي حرص هذا الفنان المخضرم على طرحها فنيا، العدالة الاجتماعية من خلال لوحة حملت نفس الكلمة وبدت كأنّها مركّبة أو مجزأة تضم المرأة التقليدية والطبيعة وبعض الرموز العلمية والتاريخية لتؤكّد بأنّ التفرقة الاجتماعية مصطنعة ولا محلّ لها من الطبيعة.
وصور بدري في لوحة ”معاناة الفنانين”، الفنانين في قمة البؤس والشحوب يصارعون العواصف والزوابع ورغم ذلك يواصلون العزف على الكمان وإمساك الريشة والابتسام عند التمثيل، وهو دليل على مدى العطاء والصبر من أجل رسالة نبيلة، وهنا يحرص بدري على رسم أدوات الفن من كمان وقناع مسرح وريشة باللون الفاتح المائل إلى البياض، باعتباره نورا وثقافة تخدم الإنسان والمجتمع.
يعرض الفنان أيضا ”تعاسة قارة” ممثلة في امرأة عجوز شاحبة بائسة تحمل سمات الفقر تجلس وهي تتأمّل حال أبنائها المنهكين بفعل الفقر والجوع، وهو رمز القارة الإفريقية التي ورثت وزر الاستعمار، وتنسج ”شبكة عنكبوت” بخيوطها لتحاصر المدن العربية، منها مثلا صنعاء والقدس ومكة ودمشق ومدنا مغاربية تحمل نفس التاريخ والجغرافيا والهوية، وتتراءى في خفية السلاسل التي ترمز إلى الاستعمار، وتحمل لوحة أخرى الأمل وهي ”العودة بعد القصف” كدليل على انتصار الثورة التحريرية المجيدة التي افتكت الحرية لتظهر صورة جماعية لعائلة قروية عادت لديارها.
مواضيع أخرى استعرضها الفنان كان منها ”حرية التعبير” المجسّدة من خلال الصحافة التي تكشف المستور وتفضحه للرأي العام عبر المقالات والتحقيقات وأفواه شخوص رجال الإعلام.
للتذكير، بدري محمد زغلول فنان عصامي ولد في ماي 1946 بتبسة، وهو طبيب بيطري متحصّل على شهادة دكتوراه من جامعة المجر، حصل على التوجيه في الفن من طرف عدّة فنانين كبار، منهم محمد إسياخم وفارس بوحاتم وباية والهادي سلمي، يعرض أعماله منذ سنة 1984، كما سبق له أن أصدر قصصا للأطفال.