«المساء» ترافق عودة المهاجرين النيجريين غير الشرعيين إلى بلدهم

الاستفاقة من أوهام الهجرة إلى الشمال

الاستفاقة من أوهام الهجرة إلى الشمال
  • 1003
❊صبرينة محمديوة ❊صبرينة محمديوة

رحلة العودة من الجزائر العاصمة انطلقت من مخيم الشباب والتسلية بزرالدة... الساعة تشير إلى حدود التاسعة والنصف ليلا من مساء الخميس 28 جوان 2018... كل التدابير اتخذت والإمكانيات سخرت لضمان سفر مريح لأكثر من 300 مهاجر إفريقي غير شرعي تم إيواؤهم بهذا المركز لقضاء فترة من الراحة قبل بدء الرحلة، فالطريق من العاصمة إلى تمنراست طويل ومتعب، يتطلب قطع مسافة حوالي 40 ساعة.. والوقت صيف، ودرجات الحرارة ترتفع أكثر كلما اتجهنا نحو الجنوب.. ولهذا كان يجب اتخاذ كل الاحتياطات اللازمة وهو ما تم بالفعل.

الكل أخذ مكانه، وقد عرف رقم حافلته، فعملية الترحيل منظمة بإحكام وتتم هذه المرة بمرافقة وفد إعلامي من الصحافة الوطنية والأجنبية، وتحت أنظار منظمات إنسانية وحقوقية غير حكومية ممثلة في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين الأممية والمنظمة الدولية للهجرة.

قبل صعودنا الحافلة، كان معظم المهاجرين قد أخذوا أماكنهم على متن الحافلات التي وفرتها السلطات الجزائرية لهذا السفر الطويل، والقلة منهم ينتظرون دورهم لركوب الحافلة وامتعتهم من أكياس ورزم بين أيديهم، معظمهم نساء وأطفال يبتسمون بمجرد النظر إليهم.. غير أن حديثهم بـ»الهاوسية» يصعب التواصل معهم في كثير من الأحيان، لكن منهم من يتحدث الفرنسية أو العربية، وإذا أراد أحدهم أن يتواصل مع أحد الإعلاميين يقرأ صورة الفاتحة ربما ليعلمه بأنه مسلم أو أنه يتقن اللغة العربية.

بعد انطلاق الرحلة لأقل من ساعة، توقف الموكب فجاة عبر الطريق السيار للبليدة بسبب عطب أصاب إحدى عجلات حافلة نقل المهاجرين، وكان يجب استبادلها وهو ما تم تداركه في وقت قصير لينطلق الموكب من جديد بمرافقة قوات الأمن من شرطة ودرك، التي أمنت عملية التنقل بطريقة متسلسلة من ولاية إلى أخرى ليصل الموكب في حدود منتصف الليل والربع إلى ولاية المدية ومنه إلى الجلفة.

أموال «صدقة... صدقة» دخل مربح لمهربي البشر

مع أولى ساعات الصباح، حل الموكب بالأغواط، أول محطة توقف للراحة أمام مركز عبور جهز خصيصا لاستقبال المهاجرين، وقد وفرت بداخله كل الضروريات من قاعة للعلاج وصالة كبيرة بطاولات وكراسي لتناول وجبة الصباح، تنوعت بين علب للعصير وحليب وقهوة وشاي مع بسكويت وقارورات مياه ذات برودة معتدلة.

دامت فترة الاستراحة حوالي ساعتين ونصف، تفقد خلالها الطاقم الطبي المتكون من طبيب عام ومختص في طب الأطفال والنساء وقابلة وطبيب نفساني، إضافة إلى فريق شبه طبي وممرضين بعض الحالات لمهاجرين أحسوا بالتعب من نساء وأطفال ورضع، أرجعت الطبيبة المعالجة سبب إرهاقهم إلى طول المسافة، وأكدت أنه يمكن لهم مواصلة السفر بعد تناول الطعام والاستراحة قليلا باستثناء ثلاث حالات لحوامل اضطر الفريق الطبي إلى تحويلهن إلى المستشفى لضمان سلامتهن وحالة لكسر في اليد لشاب.

ما عدا ذلك، البقية كلهم في حالة صحية جيدة بدليل أولئك الأطفال الذين نسوا تعب السفر بمجرد رؤيتهم لبعض الألعاب التي نصبت داخل المركز وسارعوا نحوها، فكانوا يتزحلقون وهم يمرحون ويضحكون ويستمتعون ويصرون على أبائهم من أجل تكرار نفس اللعبة.

اغتنمنا الفرصة للدردشة قليلا مع بعظهم والتقينا بحواء.. فتاة في الـ 11 من عمرها تتحدث اللهجة الجزائرية قليلا، تضع على رأسها خمارا طويلا كذاك الذي تستخدمه النساء للصلاة بلون يميل إلى البني وثياب زهرية طويلة، قالت إنها جاءت من النيجر رفقة شقيقتها وهناك من ساعدهما على عبور الحدود رفقة مجموعة أخرى من المهاجرين غير الشرعيين.

امتهنت حواء التسول منذ وصولها إلى تمنراست فتمكنت من جمع المال الذي يكفيها لمواصلة المسيرة شمالا باتجاه ولايات أخرى حيث انتقلت إلى ورقلة ومنها إلى وهران ثم الجزائر العاصمة.

وما كشفته هذه الصغيرة يذهل السامع.. فهي على تواصل مع أحد الأشخاص (لم ترد الكشف عن هويته) تعطيه جزءا من المال الذي تجمعه من التسول لإيصاله إلى أمها في النيجر، لكنها لا تعلم ما إذا كان هذا المال يصل إلى هدفه أم لا.

لم تختلف قصة حواء عن حكايات باقي الأطفال، فهذه تسمى صالحة وأخرى مريم وتلك عائشة وهذا محمد

وبشير وعبد القادر... وغيرها من الأسماء الأكثر تداولا بين المهاجرين عندما يسألون عن أسمائهم بما يعطي الانطباع بأنها مجرد أسماء مستعارة وأن هؤلاء الأطفال وحتى الكبار لا يفصحون عن هوياتهم الحقيقية.

لكن التدقيق في الهوية لم يكن من اهتمامتنا بقدر ما كان يهم معرفة كيف يصل هؤلاء من النيجر إلى الجزائر العاصمة وباقي مدن الشمال على طول مسافة تتجاوز 2500 كلم ومحفوفة بكل المخاطر.. فطريق الهجرة عبر الصحراء في مثل هذه الحالات مثله مثل ركوب البحر قد تكون نهايته أمان ولكن أكثرها موت محتوم.

سؤال أجاب عليه بوضوح أمادو عبد القادر هذا الخمسيني الذي بدا من نبرات صوته أنه غير راض بالعودة إلى بلده النيجر، كان يتحدث بسرعة وبغضب كبيرين ليروي قصته لوسائل الإعلام، وهو الذي دفع ما قيمته 20 ألف فرنك إفريقي (العملة النيجرية) لمهربي البشر الذين ينشطون شمال النيجر لتمكينه من عبور الحدود.

يقول إنه بمجرد دخول الحدود الجزائرية يتركنا المهربون في الصحراء لتواجه مصيرك، فهم يوهمون ضحاياهم من المهاجرين اليائسين بأنه لم يتبق سوى بضع كيلومترات للوصول إلى تمنراست أو أي منطقة سكنية، لكن في حقيقة الأمر يسيرون مشيا على الأقدام لعشرات وحتى لمئات الكليومترات في الصحراء.. ومن يسعفه الحظ قد يجد من يساعده للوصول إلى تمنراست.

هذا ما حدث مع عبد القادر الذي لم يكتف بالبقاء في هذه الولاية الجنوبية وعمل في الفلاحة والرعي وورشات البناء من أجل كسب المال الذي اعتبره كاف لإعالة أبنائه السبعة، لهذا فهو قد قرر مسبقا تكرار نفس التجربة بكل ما تحمله من مخاطر في حال لم يجد العمل والطعام في بلاده.

ونفس الشعور يتقاسمه العديد من الشباب ممن التقيناهم في سفرنا، فمنهم من هو حزين لترحيله ومنهم من هو سعيد للعودة إلى أهله، غير أن غالبيتهم متحسر على العودة قبل أن يتمكن من جمع مبلغ مالي يكفيه ببدء حياة يعتبرها مريحة في النيجر وتمنى بقاءه لعام أو لبضعة أشهر إضافية لاستكمال القيمة المالية المرجوة التي تمكنه من فتح متجر أو إطلاق مشروع ما في بلاده.

لهذا فبشير.. هذا الشباب العشريني الذي بدا من كلامه أنه يملك رصيدا معرفيا لا بأس به، قال إن فترة تواجده في الجزائر التي لم تتعد بضعة أشهر مكنته من معرفة قوانين هذا البلد وكيفية الإقامة فيه لذلك فهو سيعود إلى وطنه وسيسعى جاهدا للعودة إلى الجزائر لكن بطريقة شرعية وسيعبر الحدود بجواز السفر دون اللجوء إلى المهربين ليضمن عدم ترحيله مجددا.

روح التضامن والمساعدة صفة الجزائري

تركنا هؤلاء يستريحون وواصلنا تجوالنا داخل المركز، حيث لفت انتباهنا ذلك الاهتمام الذي أبداه متطوعو الهلال الأحمر الجزائري لهؤلاء المرحلون الذين كانت من  بينهم فتاة واحدة فقط أنهت دراستها الجامعية وقررت التطوع خدمة للآخرين، فتجدها مثل النحلة تطير من هذا المكان إلى ذاك وهي تهتم بالأطفال الصغار وتوفر احتياجاتهم وتستمع إلى طلبات الكبار.. فكانت أفضل مثال على كرم وحسن معاملة الجزائريين للأجانب.

طبعا لم تكن «هند» صاحبة العينين الزرقاوين والشعر الذهبي الفتاة المتطوعة الوحيدة التي أبانت عن إرادة وتفان كبيرين في عملها، فكل زملائها الشباب بذلوا نفس المجهودات، دون نسيان عناصر الحماية المدنية والأمن الذين لم يملوا ولم يكلوا ووقفوا وقفة رجل واحد لتقديم المساعدة والدعم والحفاظ على أمن وسلامة كامل القافلة في تنسيق تام اعترف به حتى ممثل المنظمة الدولية للهجرة باسكال رينتجنس.

ساعتان ونصف كانت كافية للراحة بعد مسيرة ليل كامل لمواصلة الطريق نحو غرداية، هذه المدينة الصحراوية الجميلة بمبانيها التقليدية العتيقة وواحات نخليها المترامية على أطراف الطرقات، تصل قافلة المهاجرين في حدود الساعة العاشرة والنصف من صباح الجمعة إلى مركز المدينة حيث جهزت السلطات المحلية لهذه الولاية قاعة كبيرة فرشت بزرابي بلاستيكية استلقى عليها المهاجرون وتكفل متطوعو الهلال الأحمر بتوزيع وجبة الغذاء وقارورات المياه الباردة ليروي الجميع عطشه.

فترة الاستراحة دامت ثلاث ساعات بغرداية قبل أن تستأنف القافلة رحلتها بعد الظهيرة لتخرج إلى الطريق العام تحت درجة حراراة فاقت الـ40... لا حركة بالمدينة وكأنها خالية من سكانها، فالمحالات مغلقة ونادرا ما ترى صاحب دراجة نارية مار أو سيارة ربما لأن اليوم هو يوم عطلة الأسبوع أو بسبب الارتفاع المحسوس لدرجة الحرارة.

تركنا غرداية في ذلك الصمت والهدوء التام لنتوجه نحو عين صالح التي تبعد بحوالي 700 كلم عن مدينة تمنراست والمعروفة بارتفاع درجات الحرارة بها، ولحسن الحظ كانت الحافلات مجهزة بمكيفات مما خفف من مشقة السفر رغم أن علامات الإرهاق بدت واضحة على ملامح الجميع من دون استثناء. لكن فجأة يضطر الموكب للتوقف مجددا بعد انفجار اثنان من إطارات عجلات إحدى الحافلات التي تقل المهاجرين وتناثرت قطعا قطعا على الأرض في حادث كاد أن يتحول إلى مأساة لولا خبرة السائق الذي تمكن من السيطرة على المركبة وضمن عدم انقلاب الحافلة لتتدخل المصالح المختصة بسرعة لاحتواء الوضع.

مع حلول الليل، وصل الموكب في مركز العبور المشيد حديثا في منطقة عين صالح والذي لا يزال في طور التسليم، حيث يسع لحوالي 750 شخصا، راعا مهندسوه الطابع الصحراوي لدى بنائه فجاءت مبانيه على شكل شقق بطابق واحد جزء مخصص للنساء والأطفال وآخر للرجال، يتوسطه فناء كبير فرش مجددا بالزرابي البلاستيكية.

تدافع المهاجرون فيما بينهم للاستلقاء وأخذ قسط من الراحة قبل الشروع في توزيع وجبة العشاء، وهي عبارة عن خبز وجبن ومشروبات وحليب للأطفال والرضع.

جلسنا رفقة بعض العائلات وسألناها عما إذا كان التكفل بهم جيدا، فرد الجميع أن كل شيء متوفر و»الجزائر توفر لنا الطعام والدواء»، وهذا ما يبحثون عنه، وحتى الأطفال الصغار أحسوا بذلك الاهتمام والمعاملة الإنسانية التي أزالت مخاوفهم لدرجة أنهم أصبحوا ينادون عناصر الأمن بـ»عمي الشرطي» عندما يحتاجون مساعدة ما.

انتهاء المرافقة بمدينة تمنراست

بعد ساعات راحة دامت إلى غاية الرابعة صباحا بعين صالح، استأنفت القافلة رحلتها باتجاه تمنراست المحطة ما قبل الأخيرة من التراب الجزائري، هناك يوجد مركز للعبور تعمل السلطات المحلية لهذه الولاية الجنوبية على توسعته، وهو مجهز بشاليهات منها ما خصص لإيواء المهاجرين ووفرت به قاعة للعلاج وأخرى لمصالح القنصلية النيجرية حيث يتم التدقيق في الهوية ومنح تأشيرة العودة. بعد ليلتين من المبيت في مركز الإيواء بتمنراست، بدأت الرحلة في مرحلتها الثانية فعقارب الساعة تشير إلى حدود التاسعة وعشر دقائق من مساء الاثنين 2 جويلية 2018.. كان كل من المشرفين والمهاجرين غير شرعيين متأهبين ومستعدين لاستئناف عملية الترحيل باتجاه عين قزام ومنه إلى أغاديس شمال النيجر.

الداخل إلى المركز في تلك اللحظات يرى الحافلات مصطفة الواحدة لتلوى الأخرى وبالتحديد 12 حافلة منها اثنتين احتياطيتين وسائقوها ينتظرون إشارة الانطلاق، إلى جانب سيارة إسعاف وشاحنة إطفاء والمهاجرون يصعدون تباعا إلى الحافلات ويتسابقون لوضع أمتعتهم بالصندوق المخصص لها.. وبعد  ساعتين كاملتين تنتهي مغامرة هؤلاء بالجزائر ومعها تنتهي مرافقتنا لهم.. ولم يتبق في المركز إلا بعض قارورات المياه وعلب المشروبات الملقاة على الأرض.