باريس تتخبّط في سياستها المثيرة للأزمة بين البلدين
الجزائر سيّدة قرارها ونهج المساومات قد ولى

- 241

❊غياب أدوات الفهم الواقعي لطبيعة الجزائر الجديدة يزيد من التهور الفرنسي
❊باريس تجر ذيول الفشل في محاولتها المساومة بورقة التأشيرات
❊فرنسا تجني ثمار سوء نيتها في التعامل مع أزمتها مع الجزائر
❊تدخل روتايو في صلاحيات السياسة الخارجية يفقد الدبلوماسية الفرنسية مصداقيتها
❊الجزائر الجديدة لم تعد تخضع لسياسة الضغوط التي اعتادتها بعض الدوائر الفرنسية
أضحت باريس تتخبط كالديك المذبوح في سياستها الخارجية مع الجزائر، حيث لا تفتأ أن تبحث عن منفذ جديد يمتص الغضب الشعبي الذي أثارته الإجراءات التعسّفية لليمين المتطرّف ضد الجبهة الاجتماعية، خاصة مع قرب موعد الغضب الشعبي العارم بفرنسا يوم 10 سبتمبر المقبل، في الوقت الذي يسعى فيه الإليزيه إلى تحويل أنظار الرأي العام الفرنسي، عن التدهور الذي تعيشه باريس على كافة المستويات وتحميل المسؤولية للجزائر.
أدركت باريس أن نهج المساومات مع الجزائر قد ولى، بعد أن وضعت حدا لأسلوب الوصاية الذي كانت تمارسه على بلادنا التي تبنّت مبدأ تعدد الشركاء، وفق رؤية براغماتية ترتكز على احترام القرارات السيادية والندية في التعامل، ما جعل المستعمر القديم يبادر في كل مرة بتأزيم الوضع في علاقات البلدين.
وآخر خرجة للكيدورسي كانت نشره إشعارا في الجريدة الرسمية يخص تعليق الاتفاق الجزائري-الفرنسي الموقع سنة 2013 المتعلق بالإعفاء من التأشيرات لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية وجوازات السفر لمهمة، تزعم أن الجزائر هي التي بادرت إلى تعليق الاتفاق، في الوقت الذي اعتبرت فيه الجزائر أن هذا الملف مغلق بصفة نهائية بسبب الإجراء الأحادي الجانب الذي قامت به فرنسا في مرتين متتاليين خلال شهر فيفري الماضي، بمنعها جزائريين حاملي لجواز سفر دبلوماسي من دخول أراضيها، ثم امتناعها عن الرد عن طلب الخارجية الجزائرية لتقديم توضيحات حول فعلتها هذه. ويظهر جليا بهتان باريس التي أصرت على ترويج أكاذيب تحمل فيها الجزائر مسؤولية إيقاف تطبيق أحكام الاتفاق ابتداء من 11 ماي الماضي، رغم أن هذه التدابير التقييدية تم اتخاذها من قبل الجانب الفرنسي ذاته، ونددت بها الجزائر في حينها عبر بيان رسمي صادر عن وزارة الشؤون الخارجية بتاريخ 26 من ذات الشهر. وككل مرة منذ بداية الأزمة تسارع باريس للإخلال بالبنود والاتفاقات بين البلدين، وكأنها تريد إظهار نفسها في موقع قوة غير أنها سرعان ما تقع في فخ سوء نيتها التي هزت مصداقية دبلوماسيتها بعد أن أضحى وزير داخليتها يتدخل في صلاحيات السياسة الخارجية، في حين أن رد الجزائر لا يتجاوز تطبيق تدابير مماثلة في إطار المعاملة بالمثل.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد تحدث في وقت سابق عن أن هذه الخطوة مجرد تعليق مؤقت، في جاء إعلان الجزائر عن نقضها نهائيا، كرد منطقي ضمن مبدأ المعاملة بالمثل، كون فرنسا كانت المبادرة أصلا بطلب توقيع الاتفاق، قبل أن تفشل في توظيفه كورقة ضغط لفرض تعاون في ملفات أمنية وقنصلية على غرار ترحيل رعايا مرفوضين من الإقامة في فرنسا.
وإذا كانت باريس قد فشلت في ضمان اصطفاف أوروبي حول خططها الجديدة لإدارة التأشيرات استنادا إلى قانون الهجرة الجديد المعتمد في 2024، إلا أن ذلك يعكس بما لا يدع مجالا للشك سعيها لمحاولة إنقاذ واجهتها وفق منظور كولونيالي مازال يتغنى بجرائم تبقى وصمة عار على جبين البشرية.
ولا يمكن تبرير السلوك الفرنسي سوى بكونه فشل ذريع في المساومة بورقة التأشيرات، بل إنه اصطدم بصلابة الموقف السيادي للجزائر التي تصر على ممارسة دبلوماسية قائمة على النّدّية لا على الابتزاز ولا على استغلال الامتيازات.
وعليه فإنه أمام هذا المشهد السياسي المتكرر بملامحه التي لن تزيد سوى في تعقيد العلاقات الثنائية، يظهر جليا إصرار الدوائر الفرنسية على توجيه بوصلة العلاقات الثنائية نحو الهاوية بسبب السياسة المتهورة لليمين المتطرّف، الذي يتبنّى أسلوبا يفتقر لأدنى درجات الحنكة والاتزان الدبلوماسي.
بل إن هذه السياسة تعكس حجم التخبّط الفرنسي وغياب أدوات الفهم الواقعي لطبيعة الجزائر الجديدة، التي لم تعد تخضع لا لضغوط، ولا لسياسات العصا والجزرة التي اعتادتها بعض الدوائر الفرنسية.
يأتي ذلك في الوقت الذي تشهد فيه الساحة الاجتماعية في فرنسا حالة من الغليان المتصاعد مع اقتراب موعد 10 سبتمبر، حيث تتكثف الدعوات من القواعد العمالية إلى تجميد النشاط الاقتصادي عبر إضرابات واسعة النطاق، ليذكرنا ذلك بما حدث في شتاء 2018، عندما خرج مئات الآلاف من أصحاب السترات الصفراء إلى الشوارع، وفرضوا حصارا على الطرقات والمراكز التجارية.
وإذا كانت الحكومة الفرنسية قد نجحت في امتصاص الصدمة عبر تشديد القبضة الأمنية القمعية، بسبب استغلالها غياب الدعوة الرسمية إلى الإضراب العام من قبل القيادات النّقابية، إلا أن هذه الأخيرة مصرّة على تجنّب أخطاء الماضي، حيث بدأت في تعبئة مختلف المنظمات والفيدراليات في شتى القطاعات الحيوية، فهل سيكون هذا الغضب العارم عاملا لباريس لمراجعة حساباتها وفق ما يخدم الصالح العام؟.