رسالة الرئيس بوتفليقة بمناسبة يوم النصر
بنـــــاء الجبهـــة الـــداخليـــة يعنينا جميــــعا ووسيلــته الحوار وتــوحيد الكلمـــة والمـــواقف
- 638
وجّه رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة
رسالة بمناسبة يوم النصر، فيما يلي نصها الكامل:
"أيتها السيدات الفضليات
أيها السادة الأفاضل،
تتواصل الذكريات وتتوالى المحطات الواحدة تلو الأخرى، فتتيح لنا إحياء المآثر والأمجاد، واستحضار القيم والمثل التي تَحقق بها انبعاث الجزائر وانتعاشها بعد سبات وبزوغ فجرها الجديد بعد الليل الاستعماري الدامس الذي لفها في حناديسه لقرن ويزيد.
إنه مارس؛ شهر الشهداء هذا، الذي تحيي فيه الجزائر ذكرى عدد جم من أبطالها الخالدين. إنه مارس شهر الحرية؛ حرية المغرب العربي، شهر استقلال تونس والمغرب الشقيقين، الشهر الذي أشرق فيه فجر الحرية على الجزائر عام 1962.
إن يوم 19 مارس من عام 1962 هو اليوم الذي حققت فيه الثورة الجزائرية المباركة ما ناضل الشعب الجزائري وكافح من أجله منذ 1830.
وفي اقتران يوم نصر الجزائر هذا بذكرى الشهداء وتحرر المغرب العربي رمز عميق الدلالة والمغزى بالنسبة لحاضرنا ومستقبلنا.
إن يوم 19 مارس هو يوم جاء فيه الحق وزهق الباطل، إنه يوم انتصر فيه الشعب الجزائري على الاستعمار، وبلّغه رسالة قوية هي نتاج المسيرة التي خاض غمارها عبر تاريخه النضالي الطويل يوم رسخ قدم الأمة الجزائرية في المجد، وأبان عن إبائها وشموخها وعن تضحيات أبنائها الأشاوس وفرسانها المغاوير في سبيل الحرية والانعتاق.
أيتها السيدات الفضليات
أيها السادة الأفاضل
إنني اليوم أستحضر معكم في الذكرى الغالية هذه من بين ذكريات أمتنا، محطة هامة من تاريخ شعبنا، أثبتت عبقرية أبنائه وجدارته بالسيادة وبالعيش حرا طليقا من الأكبال والأغلال التي لطالما قيدته. كان الشعب هو البطل، وكانت الهبة الوطنية الكبرى في ربوع وطننا المفدى واحدة موحدة،، انبعث منها الانتصار، وانبجس منها الخلاص. إن يوم النصر هذا هو يوم الحق، الحق الذي تسلح به الشهداء والمجاهدون، وأكسبهم القوة ليجابهوا عدوا طغى وتغطرس ودمر أسباب الحياة البشرية الكريمة في الجزائر كلها، واستعمل أبشع وأخطر أنواع التقتيل والتعذيب والبطش والتنكيل عدوا، تصدى له شعبنا الأبي بخيرة أبنائه من الشهداء والمجاهدين الذين ضربوا أبلغ الأمثلة في الفداء والتضحية، ورسموا أروع صور البطولة والاستبسال وجابهوا العدو بأخلاقيات تسمو فوق المعاني، فصاروا أهلا لاعتزاز الوطن ولتباهيه بهم جيلا بعد جيل.
في مثل هذا اليوم نتذكر كل الذين ضحوا منذ أن اجتاحت جحافل المحتل هذه الأرض الطاهرة بمهجهم؛ من أجل أن تحيا الجزائر حرة مستقلة، أولئك الذين هم أهل لاعتراف كل الشعب الجزائري الأبدي لهم بالجميل. ونتوجه بالإكبار والعرفان إلى كل مجاهداتنا ومجاهدينا الأماجد الأحياء منهم والأموات، وإلى كل من ناصر القضية الوطنية من داخل الوطن ومن خارجه، وأسدى لها الدعم والمساندة.
إن الثورة الجزائرية المجيدة التي تندرج في دينامية كفاح الحركة الوطنية وتستمد منطلقاتها من بيان أول نوفمبر 1954 التاريخي، فرضت نفسها كأسوة للعديد من الثورات عبر العالم، ومن ثمة ساهمت بقوة في حصول بلدان شتى على استقلالها، وذلك بفضل إنجازاتها وتضحياتها المبنية على قيم ومثل عليا، جعلت منها مرجعا عالميا لسائر الشعوب المستعمرة التواقة إلى الحرية والكرامة والسيادة.
أيتها السيدات الفضليات
أيها السادة الأفاضل
إننا نفتخر ونعتز في هذه الذكرى بما أنجبه الشعب الجزائري من أبطال كانوا صناديد في مجابهة العدو في ساحات الوغى وفطاحل على طاولات الحوار؛ تجسيدا للعبقرية الجزائرية، فكان مسعاهم درسا مكللا بالنتائج التي أثمرت بها المفاوضات.
إن إعلان وقف القتال جاء غلابا، وتم افتكاكه بقوة السلاح وإصرار جماهير شعبنا على الصمود ورفضها البقاء تحت السيطرة الاستعمارية، وهما العاملان اللذان اعتد بهما الوفد الجزائري المفاوض، فظفر بما تتوجت به ملحمة تاريخية طويلة بدأت بالمقاومة الشعبية، وامتدت إلى الحركة الوطنية، ثم إلى ثورة التحرير المجيدة، ملحمة كرست بطولات شعب، وفرضت بقوة الإيمان والإخلاص والوفاء، الرسالة الأبدية لجزائر الحرية والاستقلال والسيادة.
في هذا اليوم، انتهى المستعمر إلى الإقرار بأنه ليس له من مخرج سوى توقيع اتفاقيات إيفيان بعد أن باء بالفشل كل ما استعمله من الأساليب الجهنمية لكسر صمود ثورتنا التحريرية. وجاء النصر بعد أن قدم الشعب الجزائري ثمنا غاليا، قوامه قوافل من الشهداء والآلاف من الأرامل والأيتام ومئات الآلاف من السجناء والمعتقلين والمعطوبين، فضلا عن تدمير الآلاف من القرى والمداشر، وتخريب ممتلكات أبناء الشعب الجزائري ونهبها.
إننا نستذكر اليوم تلك المواقف في ظرف تمضي فيه الجزائر قدما في سائر المجالات؛ سواء في الوعي الوطني الرصين وترسيخ المواطنة، أو في تكريس السلم والمصالحة الوطنية وتثبيت الثقة وتجسيد طموحات شعبنا من خلال البرامج الإنمائية.
إنه موعد نؤكد فيه عزمنا وتصميمنا على مواصلة رسالة الشهداء رسالة نوفمبر ونحن بصدد الاحتفال المخلد للذكرى الستين لاندلاع ثورتنا المجيدة خلال هذه السنة كلها.
إنه لا مندوحة لنا مواصلة هذه الرسالة عن فعل ما ننطق به حين ننشد نشيدنا الوطني الخالد حيث نقول:
"صرخة الأوطان من ساح الفداء...
اسمعوها... اكتبوها...
واقرأوها لبني الجيل غدا...”
أي أن نوثق أحداث الثورة التحريرية، علما أن كتابة التاريخ فرض عين ومهمة حيوية للغاية، وأن رواية وقائعه من قبل الذين صنعوه أو عايشوه لا تحتمل التأجيل أو التسويف. إن كل ما سيدوَّن سيفيد ولا شك، المؤرخين الأكاديميين بالمعطيات النزيهة الدقيقة حول الأحداث وأبطالها من قبل من شارك فيها. والغاية من هذا كله هي تعريف الأجيال بأسلافها من القادة المنظرين والقادة المؤطرين لصفوف المناضلين والمجاهدين والمسبلين، واستلهام ذلكم المسعى الجماعي المنسق من أجل تحرير الوطن من الاستعمار، الذي أدلى فيه كل بدلوه لبعث مسعى جماعي منسق من أجل تحريره من التبعية الاقتصادية، والارتقاء به إلى مصف القوى الاقتصادية الناشئة.
إن الشعب الجزائري الذي تكوّن وتثقّف في مدرسة الثورة كان وسيبقى وفيا للعهود التي أخذها على نفسه. وما أنجبته الثورة هو ذلكم البطل الذي سيظل حيا في وجدان كل جزائرية وجزائري. وإننا مدعوون إلى تقوية حب الوطن، ذلكم السلاح الذي به نقوى على مجابهة كل التحديات ونتغلب عليها.
علينا أن نصون أمانة الشهداء الأبرار؛ إذ إنهم، كما قال شاعرنا الهمام محمد العيد آل خليفة:
"إنهم أوفوا العهود فهل أن
تم لميثاقهم من الأوفياء”.
أيتها السيدات الفضليات
أيها السادة الأفاضل
اليوم ونحن نحيي ذكرى محطة بارزة من محطات تاريخنا، قد يكون من الفائدة أن نعود إلى حاضرنا؛ ذلك أنه تم قبل بضعة أيام التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق السلم والمصالحة في مالي تحت إشراف الوساطة الدولية بقيادة الجزائر.
إننا مرتاحون لإبرام هذا الاتفاق الذي يشكل مرحلة هامة من مسار استتباب السلم واستعادة الاستقرار في هذا البلد الجار.
في هذا المقام يجدر أن نشيد بمستوى النضج الذي تحلى به الأشقاء الماليون، وبحرصهم على الخروج من الأزمة التي كادت تعصف ببلدهم، وذلك عن طريق الحوار والمصالحة الوطنية في كنف الاحترام التام لسلامة مالي الترابية ووحدته الوطنية، ويزيد من التلاحم للمجتمع المالي.
هذا، ونحيي ما أبدته الأطراف الليبية من إقبال جاد على مباشرة حوار شامل من أجل تمكين بلادها من تجاوز أزمتها الراهنة، وبناء المؤسسات الضرورية لإعادة إعمارها.
إن الجزائر ستواصل دعمها التام ومشاطرتها الكاملة للجهود الحالية، الرامية إلى تمكين الشعب الليبي الشقيق من الحفاظ على وحدته وسيادته وسلامة بلاده الترابية. سيظل السعي من أجل استعادة الاستقرار في مالي وفي ليبيا وغيرهما من بلدان المنطقة، الشغل الشاغل للجزائر؛ من حيث إنه يسهم في تأمين الظروف التي توفر أسباب النجاعة في محاربة آفة الإرهاب وشبكاته، هذه الآفة التي تشكل تهديدا خطيرا لأمن بلدان المنطقة قاطبة.
إننا نتابع ببالغ الانشغال ما يجري في البلدان العربية الشقيقة التي تكابد ويلات ذقنا مرارتها وتعيش محنا خبرناها وتسير في متاهات عرفنا مثلها؛ فلا نملك إلا أن نعرب عن حسرتنا لما تقاسيه شعوبها من معاناة وأضرار وآلام، وأن نعبر عن تعاطفنا معها في محنتها ومأساتها. وأجدد هنا بصفة خاصة مؤازرة وتضامن الجزائر مع الشعب التونسي الشقيق والجار. كما ندعو جميع هؤلاء الأشقاء إلى الجنوح بالتي هي أحسن إلى رأب الصدع، وإصلاح ذات البين والتسامي فوق الانقسامات، وإلى اتخاذ الحوار والمصالحة سبيلا للخروج من الأوضاع التي تعاني منها، وولوج أبواب السلم والوئام.
أما على الصعيد الداخلي فإنني لن أواصل كتابي هذا دون أن أزجي أزكى التحية وأخلص التقدير لسكان جنوبنا عامة وغرداية خاصة، وأزف للجميع عرفان الأمة جمعاء لما كان لهم من إسهام مشهود وعطاء غير مجذوذ في ثورة التحرير الوطنية وفي مسار البناء والتشييد.
إن الاحتفال بعيد النصر بغرداية هذا العام يتيح لي فرصة مخاطبتكم أنتم مواطناتها ومواطنيها وأنتم مواطناتنا ومواطنينا بعين صالح، أنتم أبناء جزائرنا العميقة المتشبعين بحكمة وتبصر أورثكم إياهما تاريخ عريق كله تضحيات وكد شاق دؤوب في سبيل مغالبة التحديات العاتية التي تفرضها عليكم طبيعة قاسية كأشد ما تكون القسوة، لكنها غنية بكم، وأنتم بها أغنياء كأشد ما يكون الغنى بنعم الله وآلائه.
إنكم بفضل رأس المال هذا الذي لا يقدَّر بثمن والذي كسبتموه بالشجاعة والعطاء وبفضل تمسّككم العميق بتعاليم ديننا الحنيف الداعي إلى التسامح والعمل والكد، صنعتم واحدا من المكونات الكبرى لشخصيتنا الوطنية ماضيا وحاضرا. فعلتم ذلك كذلك بفضل جنوحكم الطوعي والصريح إلى السلم، وبفضل ما تتمتعون به من حس بالمسؤولية وبالإيخاء، كان على الدوام عنوانا لتعاملاتكم، وكان له الرجحان في كل الظروف.
إن غرداية تحل منا محل السويداء من القلب. إنها أنجبت من العلماء جهابذتهم، ومن الشعراء فطاحلهم، ومن المعلمين والمهندسين والأطباء أكفاءهم. ويكفيها فخرا أنها أهدت الجزائر أمثال قطب الأئمة الشيخ إبراهيم أطفيش، وأمثال الشيخ إبراهيم بيوض، وأمثال مفدي زكريا وصالح خرفي وغيرهم.
غرداية نابها من الأيام ما نابها، ونالها من الآلام ما نالها ولحق بها ما أدمى منا القلوب وحرك فينا المواجع. لقد آن لها أن تعود إلى سابق عهدها من الأمن والأمان والطمأنينة؛ كيف لا وهي التي كانت على مر العصور والعهود، مهد التعايش والتآلف ورمز التوافق والتثاقف.
دعوني أَحذُ حذو شاعر ثورتنا الهمام فارس المجاهدين بالفكر والقلم مفدي زكريا، طيب الله ثراه، وأعلن بكل صدق وإخلاص، أن حبي للشعب الجزائري كله واليمين الدستوري الذي أديته المرة تلو المرة، يمنعانني من أن أفرق بين الجزائري وأخيه الجزائري، وأن أفرق بين المالكي منكم وأخيه الإباضي. إنكم كلكم إخواني أحبكم في الله والوطن، أحترمكم وأدافع عنكم لأنكم من خيرة العاملين لله والوطن في بلادنا.
ما من غيرة تضاهي غيرتي على وحدة أمتنا الجزائرية إلا غيرتي على وحدة بلادنا الترابية. وما من كره يفوق كرهي للفرقة والتعصب العنصري أو الديني أو الجهوي من حيث أتى بين أبناء الجزائر.
إن الدولة لعازمة على مواصلة الجهود، وبذل كل ما بوسعها بذله كي يعود الهدوء يعم منطقة غرداية بتمامها. وسترصد كافة الوسائل والإمكانيات لذلك؛ إنها ماضية بحزم في سياستها المتوخية تعميم التطور على كافة ربوع الوطن، وهي عاقدة العزم على إخراج البلاد مما لازالت تعانيه من مظاهر التخلف وقصور التنمية. والهدف هذا إنما يقتضي تضافر جهود كافة القوى الحية ضمن مسعى يقوم على الثقة بأن الدولة حريصة كل الحرص على مصلحة الشعب، ولا يمكنها البتة التضحية بها مهما كان المقابل.
لقد واجهتم مؤخرا، شأنكم في ذلك شأن أبناء مناطق أخرى من الوطن، صعوبات نجمت عن تضافر وضعين، تولّد أولهما عن المشاكل المترتبة عن إدارة مختلف الجبهات التي فتحناها في مسعانا الحثيث؛ من أجل تسريع وتيرة تنمية البلاد، وترتّب ثانيهما عن التوتر الذي تسببت فيه في الآن نفسه، تلك الأحداث التي شهدتها المنطقة، والقيود التي فرضتها عولمة كاسحة طالت التعاملات كلها.
إنني أتوجه إلى رحابة صدوركم ورجاحة عقولكم، داعيا إياكم أن تكونوا ودولتكم الحريصة عليكم، يدا واحدة على الفرقة والشنآن وعلى التخلف بجميع مظاهره، لنكمل في كنف الوئام والوفاق مسيرة البناء التي باشرناها، وتجسدت في برامج وإجراءات خاصة لتنمية الجنوب.
إن جنوب الجزائر منها، وهي منه لا محيد ولا بديل لأحدهما عن الآخر، بل هما جسد واحد؛ ”إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى”.
لقد آلت الدولة على نفسها أن تكون في خدمة أبنائها في كافة أصقاع الوطن؛ فلا يمكنها التفريط فيهم ولا الإضرار بمصالحهم. إنها الدولة الحانية الرؤوم التي يسوؤها جنوح بعض أبنائها إلى عدم الثقة فيها وفي تعهداتها والتزاماتها، وأعني بهم بعض سكان عين صالح، وما هم ماضون فيه من احتجاجات رغم كل ما تلقّوه من تطمينات.
إن عين صالح في أعيننا. إنها لم تبخل على الجزائر بخير أرضها ولم تضن عليها بخيرة أبنائها. أمدتها بثروة الغاز وبثروة الرجال، فكانت أهلا لامتنانها وعرفانها ولتخصيصها بالإجراءات والمخططات الكفيلة بتحسين ظروف معيشة أهلها، بل وبتحقيق نقلة نوعية ترتقي بهم إلى مستوى من التطور، يضاهي ذلكم السائد في شمال البلاد.
إنه يحز في نفسي ما رأيته وما لازلت أراه من فتن رعناء، تثبط عزائم أولئك العاملين ليل نهار من أجل سعادة الشعب كله وعزة الجزائر وسؤددها. ويعز عليّ أن أرى البعض من أبناء المنطقة يستدرج إلى الكيد إلى دولة بلاده، وأن أرى البعض الآخر ينساق إلى الوقوف موقف الارتياب والتشكيك في إخلاص قادة دولتهم ونزاهتهم، وإلى الطعن في سلامة وجدوى تدابيرهم وقراراتهم ومخططاتهم الرامية إلى تنمية البلاد برمتها.
إنني أدعوهم إلى ترجيح الحكمة وتحكيم العقل؛ فالحفاظ على صحة المواطنين وعلى البيئة التي يعيشون فيها خط أحمر لا يمكن للدولة أو غيرها تجاوزه. إن المواطنين هؤلاء هم ثروة البلاد الحقيقية، الثروة التي لا تنضب ولا يطولها النفاد.
إن فيكم من الروح الوطنية والغيرة على الوطن ومصالحه ومن حس المواطنة الحقة ما سيحملكم على ذلك. وأنا كلي ثقة من أن آفاقا واعدة تنفتح أمام جنوبنا الكبير بفضل ما تتحلون به من علو الهمة وجد في السعي وقدرة خبرناها فيكم على مغالبة الصعاب ورفع التحديات وكسب الرهانات.
إن فيكم نخوة تأبى على الوطن الضيم، وإباء لا يرضى الهوان ولا الوقوع في براثن من يتربصون به الدوائر إن دبت بين أبنائه الفرقة واستشرى فيهم الانقسام.
إنه ليحذوني عميق اليقين من أننا سنتخطى كلنا جميعا في كنف الأخوة التي لم نتنكر لها أبدا والتي تزداد قوة يوما بعد يوم، الأخوة التي وسمت على الدوام العلاقات بين المواطنين بميسمها، وفي إطار التشاور والحوار المطبوع بالهدوء والسكينة سنتخطى كافة الصعوبات التي قد تعترض سبيل مسيرتنا المشتركة صوب التقدم والرفاه الذي يعم نفعه المجموعة الوطنية قاطبة.
إنني أعلم كذلك أن كل فرد منكم يضع المصالح العليا للوطن فوق كل اعتبار، ومن ثمة يتعين علينا الإقرار بأنه لا سبيل إلى التخطيط للمراحل المقبلة لتنميتنا الوطنية إن لم نكن على إلمام كاف بمكنونات باطن أرضنا من الغاز والبترول ومن الغاز الصخري.
إننا قد أقدمنا على مباشرة عمليات استكشاف قدرات البلاد من الغاز الصخري، وكل ما يجري حاليا ينحسر في عمليات الاستكشاف والتقييم لا غير، دون أن يغيب عنا ولو للحظة أنه لا يحق ولا يمكن لأحد أن يجنح إلى التصرف على نحو يضر بمصالح المواطنين وبالبيئة وبالسلامة الجيولوجية لأية منطقة من مناطق البلاد، وانطلاقا من قناعات ثابتة ومؤكدة لا يمكن نقضها. وإننا سنلتزم بهذا النهج حتى يبلغ مبلغه.
هذا وما دمت بصدد مفاتحتكم حول مشاغلي ذات الصلة بجنوب بلادنا، هناك أمر أثار خلال الأيام الأخيرة بعض التساؤلات؛ وأعني به التقسيم الإداري الجديد المزمع إجراؤه في مناطق الجنوب والهضاب العليا.
في هذا الشأن، لا بد لي أن أطمئن المواطنات والمواطنين بأن ما تم إعلانه من الإجراءات سينفَّذ فور الفراغ قبليا من الإجراءات التنظيمية. في انتظار ذلك تعكف القطاعات المعنية على تأمين الظروف التقنية، وتوفير مختلف الوسائل اللازمة لإنجاح العملية.
أيتها السيدات الفضليات،
أيها السادة الأفاضل
هناك انشغالات بل توجسات تؤرقني؛ فمن الفائدة لي ولكم أن أغتنم هذه المناسبة وأفضي لكم بها ونحن نحيي ذكرى هذا اليوم الأغر، الذي بدأت بفضله الدولة الجزائرية الحديثة الدولة التي حلم بها الشهداء، تخرج إلى الوجود. هذه الدولة التي جاءت لتخدم الشعب الجزائري الذي يصبح مدينا لها مقابل ذلك بصونها والدفاع عنها؛ لأن ديمومتها لا تتأتى بإخلاد مواطناتها ومواطنيها إلى الحياد أو إلى الوقوف وقفة المتفرج في هذا الظرف الذي نرى فيه الكثيرين منا ينساقون، ويا للأسف، لأسباب مفتعلة باطلة، إلى سقوط أخلاقي، سقوط حضاري يتنافى وكل مقومات المواطنة الصادقة المسؤولة.
لما كنت من هذا الشعب ونذرت حياتي لخدمته ومقاسمته سراءه وضراءه يملي علي الضمير والمنصب حيث بوّأني بمحض اختياره، أن أصارحكم وأقول لكم إنني متوجس خيفة مما قد يقدم عليه من منكرات أناس من بني جلدتنا اعترتهم نزعة خطيرة إلى اعتماد سياسة الأرض المحروقة في مسعاهم إلى الوصول إلى حكم البلاد، حتى عب الأبي الأريب، الذي يمقت الشر ومن يتعاطاه، ولا يروم سوى الخروج مما بقي من تخلفه بتحويل طاقة شبابه كل شبابه، إلى حراك وطني شامل عارم يبني ولا يهدم.
نحن الآن أمام حالة اضطرار إلى إعمال الحزم والصرامة، كل الحزم والصرامة، في الدفاع عن هذه الدولة، فهو واجب دستوري، واجب قانوني، واجب شرعي وأخلاقي لا يجوز لا تأجيله ولا التقاعس عنه.
يجب على أخيار هذه الأمة أن يتجندوا ويتكتلوا من أجل رص بنيان الجبهة الداخلية؛ درءا لمخاطر السياق الراهن في منطقتنا التي تعج بشتى أنواع الاضطرابات والتهديدات.
إن بناء هذه الجبهة الداخلية يعنينا جميعا، ووسيلته الحوار وتوحيد الكلمة والمواقف. ولما كنا نؤمن بفضائل الحوار ونحبذ الجنوح إليه ونقبله مع من خالفنا في التصور السياسي لتدبير شؤون البلاد ومن ناقضنا بأحسن مما نأتي به، لا نرى ضيرا في أن نطرق باب هذا الحوار على ألا يكون من يأتي إليه ذا موقف مبيّت على المساس بما هو قائم بمقتضى الدستور ومكرس بالإرادة الشعبية الصريحة. الجزائر باقية، وستظل بإذن الله عزيزة كريمة بأخيارها.
في مثل هذه المناسبة تجب التحية لكل من هم جديرون بها من خدمة الدولة بمؤسساتها وإداراتها، وإلى رجال الجيش الوطني الشعبي الأشاوس، إلى ضباطه وصف ضباطه وجنوده البواسل وكافة أسلاك الأمن الذين يدافعون عن حمى الجزائر رابضين على كل حدودها، وإلى الذين يجوبون منهم أوعار هذا الوطن وسهوله من أجل اجتثاث الإرهاب المقيت من جذوره وقطع شأفته.
والتحية تجب أيضا في هذا المقام إلى كل أعوان الدولة في جميع القطاعات، الذين يسهرون على بنائها وترقية اقتصادها ومصلحة شعبها.
ولا يفوتني أن أزجي التحية كذلك إلى كافة المواطنات والمواطنين الذين يدلون بدلوهم بما يتحلون به من إخلاص وتوثب ومن وعي بالتحديات التي لا بد لبلادنا من مغالبتها في تنشيط مسارها التنموي على جميع الصعد وفي ازدهارها”. (واج)
رسالة بمناسبة يوم النصر، فيما يلي نصها الكامل:
"أيتها السيدات الفضليات
أيها السادة الأفاضل،
تتواصل الذكريات وتتوالى المحطات الواحدة تلو الأخرى، فتتيح لنا إحياء المآثر والأمجاد، واستحضار القيم والمثل التي تَحقق بها انبعاث الجزائر وانتعاشها بعد سبات وبزوغ فجرها الجديد بعد الليل الاستعماري الدامس الذي لفها في حناديسه لقرن ويزيد.
إنه مارس؛ شهر الشهداء هذا، الذي تحيي فيه الجزائر ذكرى عدد جم من أبطالها الخالدين. إنه مارس شهر الحرية؛ حرية المغرب العربي، شهر استقلال تونس والمغرب الشقيقين، الشهر الذي أشرق فيه فجر الحرية على الجزائر عام 1962.
إن يوم 19 مارس من عام 1962 هو اليوم الذي حققت فيه الثورة الجزائرية المباركة ما ناضل الشعب الجزائري وكافح من أجله منذ 1830.
وفي اقتران يوم نصر الجزائر هذا بذكرى الشهداء وتحرر المغرب العربي رمز عميق الدلالة والمغزى بالنسبة لحاضرنا ومستقبلنا.
إن يوم 19 مارس هو يوم جاء فيه الحق وزهق الباطل، إنه يوم انتصر فيه الشعب الجزائري على الاستعمار، وبلّغه رسالة قوية هي نتاج المسيرة التي خاض غمارها عبر تاريخه النضالي الطويل يوم رسخ قدم الأمة الجزائرية في المجد، وأبان عن إبائها وشموخها وعن تضحيات أبنائها الأشاوس وفرسانها المغاوير في سبيل الحرية والانعتاق.
أيتها السيدات الفضليات
أيها السادة الأفاضل
إنني اليوم أستحضر معكم في الذكرى الغالية هذه من بين ذكريات أمتنا، محطة هامة من تاريخ شعبنا، أثبتت عبقرية أبنائه وجدارته بالسيادة وبالعيش حرا طليقا من الأكبال والأغلال التي لطالما قيدته. كان الشعب هو البطل، وكانت الهبة الوطنية الكبرى في ربوع وطننا المفدى واحدة موحدة،، انبعث منها الانتصار، وانبجس منها الخلاص. إن يوم النصر هذا هو يوم الحق، الحق الذي تسلح به الشهداء والمجاهدون، وأكسبهم القوة ليجابهوا عدوا طغى وتغطرس ودمر أسباب الحياة البشرية الكريمة في الجزائر كلها، واستعمل أبشع وأخطر أنواع التقتيل والتعذيب والبطش والتنكيل عدوا، تصدى له شعبنا الأبي بخيرة أبنائه من الشهداء والمجاهدين الذين ضربوا أبلغ الأمثلة في الفداء والتضحية، ورسموا أروع صور البطولة والاستبسال وجابهوا العدو بأخلاقيات تسمو فوق المعاني، فصاروا أهلا لاعتزاز الوطن ولتباهيه بهم جيلا بعد جيل.
في مثل هذا اليوم نتذكر كل الذين ضحوا منذ أن اجتاحت جحافل المحتل هذه الأرض الطاهرة بمهجهم؛ من أجل أن تحيا الجزائر حرة مستقلة، أولئك الذين هم أهل لاعتراف كل الشعب الجزائري الأبدي لهم بالجميل. ونتوجه بالإكبار والعرفان إلى كل مجاهداتنا ومجاهدينا الأماجد الأحياء منهم والأموات، وإلى كل من ناصر القضية الوطنية من داخل الوطن ومن خارجه، وأسدى لها الدعم والمساندة.
إن الثورة الجزائرية المجيدة التي تندرج في دينامية كفاح الحركة الوطنية وتستمد منطلقاتها من بيان أول نوفمبر 1954 التاريخي، فرضت نفسها كأسوة للعديد من الثورات عبر العالم، ومن ثمة ساهمت بقوة في حصول بلدان شتى على استقلالها، وذلك بفضل إنجازاتها وتضحياتها المبنية على قيم ومثل عليا، جعلت منها مرجعا عالميا لسائر الشعوب المستعمرة التواقة إلى الحرية والكرامة والسيادة.
أيتها السيدات الفضليات
أيها السادة الأفاضل
إننا نفتخر ونعتز في هذه الذكرى بما أنجبه الشعب الجزائري من أبطال كانوا صناديد في مجابهة العدو في ساحات الوغى وفطاحل على طاولات الحوار؛ تجسيدا للعبقرية الجزائرية، فكان مسعاهم درسا مكللا بالنتائج التي أثمرت بها المفاوضات.
إن إعلان وقف القتال جاء غلابا، وتم افتكاكه بقوة السلاح وإصرار جماهير شعبنا على الصمود ورفضها البقاء تحت السيطرة الاستعمارية، وهما العاملان اللذان اعتد بهما الوفد الجزائري المفاوض، فظفر بما تتوجت به ملحمة تاريخية طويلة بدأت بالمقاومة الشعبية، وامتدت إلى الحركة الوطنية، ثم إلى ثورة التحرير المجيدة، ملحمة كرست بطولات شعب، وفرضت بقوة الإيمان والإخلاص والوفاء، الرسالة الأبدية لجزائر الحرية والاستقلال والسيادة.
في هذا اليوم، انتهى المستعمر إلى الإقرار بأنه ليس له من مخرج سوى توقيع اتفاقيات إيفيان بعد أن باء بالفشل كل ما استعمله من الأساليب الجهنمية لكسر صمود ثورتنا التحريرية. وجاء النصر بعد أن قدم الشعب الجزائري ثمنا غاليا، قوامه قوافل من الشهداء والآلاف من الأرامل والأيتام ومئات الآلاف من السجناء والمعتقلين والمعطوبين، فضلا عن تدمير الآلاف من القرى والمداشر، وتخريب ممتلكات أبناء الشعب الجزائري ونهبها.
إننا نستذكر اليوم تلك المواقف في ظرف تمضي فيه الجزائر قدما في سائر المجالات؛ سواء في الوعي الوطني الرصين وترسيخ المواطنة، أو في تكريس السلم والمصالحة الوطنية وتثبيت الثقة وتجسيد طموحات شعبنا من خلال البرامج الإنمائية.
إنه موعد نؤكد فيه عزمنا وتصميمنا على مواصلة رسالة الشهداء رسالة نوفمبر ونحن بصدد الاحتفال المخلد للذكرى الستين لاندلاع ثورتنا المجيدة خلال هذه السنة كلها.
إنه لا مندوحة لنا مواصلة هذه الرسالة عن فعل ما ننطق به حين ننشد نشيدنا الوطني الخالد حيث نقول:
"صرخة الأوطان من ساح الفداء...
اسمعوها... اكتبوها...
واقرأوها لبني الجيل غدا...”
أي أن نوثق أحداث الثورة التحريرية، علما أن كتابة التاريخ فرض عين ومهمة حيوية للغاية، وأن رواية وقائعه من قبل الذين صنعوه أو عايشوه لا تحتمل التأجيل أو التسويف. إن كل ما سيدوَّن سيفيد ولا شك، المؤرخين الأكاديميين بالمعطيات النزيهة الدقيقة حول الأحداث وأبطالها من قبل من شارك فيها. والغاية من هذا كله هي تعريف الأجيال بأسلافها من القادة المنظرين والقادة المؤطرين لصفوف المناضلين والمجاهدين والمسبلين، واستلهام ذلكم المسعى الجماعي المنسق من أجل تحرير الوطن من الاستعمار، الذي أدلى فيه كل بدلوه لبعث مسعى جماعي منسق من أجل تحريره من التبعية الاقتصادية، والارتقاء به إلى مصف القوى الاقتصادية الناشئة.
إن الشعب الجزائري الذي تكوّن وتثقّف في مدرسة الثورة كان وسيبقى وفيا للعهود التي أخذها على نفسه. وما أنجبته الثورة هو ذلكم البطل الذي سيظل حيا في وجدان كل جزائرية وجزائري. وإننا مدعوون إلى تقوية حب الوطن، ذلكم السلاح الذي به نقوى على مجابهة كل التحديات ونتغلب عليها.
علينا أن نصون أمانة الشهداء الأبرار؛ إذ إنهم، كما قال شاعرنا الهمام محمد العيد آل خليفة:
"إنهم أوفوا العهود فهل أن
تم لميثاقهم من الأوفياء”.
أيتها السيدات الفضليات
أيها السادة الأفاضل
اليوم ونحن نحيي ذكرى محطة بارزة من محطات تاريخنا، قد يكون من الفائدة أن نعود إلى حاضرنا؛ ذلك أنه تم قبل بضعة أيام التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق السلم والمصالحة في مالي تحت إشراف الوساطة الدولية بقيادة الجزائر.
إننا مرتاحون لإبرام هذا الاتفاق الذي يشكل مرحلة هامة من مسار استتباب السلم واستعادة الاستقرار في هذا البلد الجار.
في هذا المقام يجدر أن نشيد بمستوى النضج الذي تحلى به الأشقاء الماليون، وبحرصهم على الخروج من الأزمة التي كادت تعصف ببلدهم، وذلك عن طريق الحوار والمصالحة الوطنية في كنف الاحترام التام لسلامة مالي الترابية ووحدته الوطنية، ويزيد من التلاحم للمجتمع المالي.
هذا، ونحيي ما أبدته الأطراف الليبية من إقبال جاد على مباشرة حوار شامل من أجل تمكين بلادها من تجاوز أزمتها الراهنة، وبناء المؤسسات الضرورية لإعادة إعمارها.
إن الجزائر ستواصل دعمها التام ومشاطرتها الكاملة للجهود الحالية، الرامية إلى تمكين الشعب الليبي الشقيق من الحفاظ على وحدته وسيادته وسلامة بلاده الترابية. سيظل السعي من أجل استعادة الاستقرار في مالي وفي ليبيا وغيرهما من بلدان المنطقة، الشغل الشاغل للجزائر؛ من حيث إنه يسهم في تأمين الظروف التي توفر أسباب النجاعة في محاربة آفة الإرهاب وشبكاته، هذه الآفة التي تشكل تهديدا خطيرا لأمن بلدان المنطقة قاطبة.
إننا نتابع ببالغ الانشغال ما يجري في البلدان العربية الشقيقة التي تكابد ويلات ذقنا مرارتها وتعيش محنا خبرناها وتسير في متاهات عرفنا مثلها؛ فلا نملك إلا أن نعرب عن حسرتنا لما تقاسيه شعوبها من معاناة وأضرار وآلام، وأن نعبر عن تعاطفنا معها في محنتها ومأساتها. وأجدد هنا بصفة خاصة مؤازرة وتضامن الجزائر مع الشعب التونسي الشقيق والجار. كما ندعو جميع هؤلاء الأشقاء إلى الجنوح بالتي هي أحسن إلى رأب الصدع، وإصلاح ذات البين والتسامي فوق الانقسامات، وإلى اتخاذ الحوار والمصالحة سبيلا للخروج من الأوضاع التي تعاني منها، وولوج أبواب السلم والوئام.
أما على الصعيد الداخلي فإنني لن أواصل كتابي هذا دون أن أزجي أزكى التحية وأخلص التقدير لسكان جنوبنا عامة وغرداية خاصة، وأزف للجميع عرفان الأمة جمعاء لما كان لهم من إسهام مشهود وعطاء غير مجذوذ في ثورة التحرير الوطنية وفي مسار البناء والتشييد.
إن الاحتفال بعيد النصر بغرداية هذا العام يتيح لي فرصة مخاطبتكم أنتم مواطناتها ومواطنيها وأنتم مواطناتنا ومواطنينا بعين صالح، أنتم أبناء جزائرنا العميقة المتشبعين بحكمة وتبصر أورثكم إياهما تاريخ عريق كله تضحيات وكد شاق دؤوب في سبيل مغالبة التحديات العاتية التي تفرضها عليكم طبيعة قاسية كأشد ما تكون القسوة، لكنها غنية بكم، وأنتم بها أغنياء كأشد ما يكون الغنى بنعم الله وآلائه.
إنكم بفضل رأس المال هذا الذي لا يقدَّر بثمن والذي كسبتموه بالشجاعة والعطاء وبفضل تمسّككم العميق بتعاليم ديننا الحنيف الداعي إلى التسامح والعمل والكد، صنعتم واحدا من المكونات الكبرى لشخصيتنا الوطنية ماضيا وحاضرا. فعلتم ذلك كذلك بفضل جنوحكم الطوعي والصريح إلى السلم، وبفضل ما تتمتعون به من حس بالمسؤولية وبالإيخاء، كان على الدوام عنوانا لتعاملاتكم، وكان له الرجحان في كل الظروف.
إن غرداية تحل منا محل السويداء من القلب. إنها أنجبت من العلماء جهابذتهم، ومن الشعراء فطاحلهم، ومن المعلمين والمهندسين والأطباء أكفاءهم. ويكفيها فخرا أنها أهدت الجزائر أمثال قطب الأئمة الشيخ إبراهيم أطفيش، وأمثال الشيخ إبراهيم بيوض، وأمثال مفدي زكريا وصالح خرفي وغيرهم.
غرداية نابها من الأيام ما نابها، ونالها من الآلام ما نالها ولحق بها ما أدمى منا القلوب وحرك فينا المواجع. لقد آن لها أن تعود إلى سابق عهدها من الأمن والأمان والطمأنينة؛ كيف لا وهي التي كانت على مر العصور والعهود، مهد التعايش والتآلف ورمز التوافق والتثاقف.
دعوني أَحذُ حذو شاعر ثورتنا الهمام فارس المجاهدين بالفكر والقلم مفدي زكريا، طيب الله ثراه، وأعلن بكل صدق وإخلاص، أن حبي للشعب الجزائري كله واليمين الدستوري الذي أديته المرة تلو المرة، يمنعانني من أن أفرق بين الجزائري وأخيه الجزائري، وأن أفرق بين المالكي منكم وأخيه الإباضي. إنكم كلكم إخواني أحبكم في الله والوطن، أحترمكم وأدافع عنكم لأنكم من خيرة العاملين لله والوطن في بلادنا.
ما من غيرة تضاهي غيرتي على وحدة أمتنا الجزائرية إلا غيرتي على وحدة بلادنا الترابية. وما من كره يفوق كرهي للفرقة والتعصب العنصري أو الديني أو الجهوي من حيث أتى بين أبناء الجزائر.
إن الدولة لعازمة على مواصلة الجهود، وبذل كل ما بوسعها بذله كي يعود الهدوء يعم منطقة غرداية بتمامها. وسترصد كافة الوسائل والإمكانيات لذلك؛ إنها ماضية بحزم في سياستها المتوخية تعميم التطور على كافة ربوع الوطن، وهي عاقدة العزم على إخراج البلاد مما لازالت تعانيه من مظاهر التخلف وقصور التنمية. والهدف هذا إنما يقتضي تضافر جهود كافة القوى الحية ضمن مسعى يقوم على الثقة بأن الدولة حريصة كل الحرص على مصلحة الشعب، ولا يمكنها البتة التضحية بها مهما كان المقابل.
لقد واجهتم مؤخرا، شأنكم في ذلك شأن أبناء مناطق أخرى من الوطن، صعوبات نجمت عن تضافر وضعين، تولّد أولهما عن المشاكل المترتبة عن إدارة مختلف الجبهات التي فتحناها في مسعانا الحثيث؛ من أجل تسريع وتيرة تنمية البلاد، وترتّب ثانيهما عن التوتر الذي تسببت فيه في الآن نفسه، تلك الأحداث التي شهدتها المنطقة، والقيود التي فرضتها عولمة كاسحة طالت التعاملات كلها.
إنني أتوجه إلى رحابة صدوركم ورجاحة عقولكم، داعيا إياكم أن تكونوا ودولتكم الحريصة عليكم، يدا واحدة على الفرقة والشنآن وعلى التخلف بجميع مظاهره، لنكمل في كنف الوئام والوفاق مسيرة البناء التي باشرناها، وتجسدت في برامج وإجراءات خاصة لتنمية الجنوب.
إن جنوب الجزائر منها، وهي منه لا محيد ولا بديل لأحدهما عن الآخر، بل هما جسد واحد؛ ”إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى”.
لقد آلت الدولة على نفسها أن تكون في خدمة أبنائها في كافة أصقاع الوطن؛ فلا يمكنها التفريط فيهم ولا الإضرار بمصالحهم. إنها الدولة الحانية الرؤوم التي يسوؤها جنوح بعض أبنائها إلى عدم الثقة فيها وفي تعهداتها والتزاماتها، وأعني بهم بعض سكان عين صالح، وما هم ماضون فيه من احتجاجات رغم كل ما تلقّوه من تطمينات.
إن عين صالح في أعيننا. إنها لم تبخل على الجزائر بخير أرضها ولم تضن عليها بخيرة أبنائها. أمدتها بثروة الغاز وبثروة الرجال، فكانت أهلا لامتنانها وعرفانها ولتخصيصها بالإجراءات والمخططات الكفيلة بتحسين ظروف معيشة أهلها، بل وبتحقيق نقلة نوعية ترتقي بهم إلى مستوى من التطور، يضاهي ذلكم السائد في شمال البلاد.
إنه يحز في نفسي ما رأيته وما لازلت أراه من فتن رعناء، تثبط عزائم أولئك العاملين ليل نهار من أجل سعادة الشعب كله وعزة الجزائر وسؤددها. ويعز عليّ أن أرى البعض من أبناء المنطقة يستدرج إلى الكيد إلى دولة بلاده، وأن أرى البعض الآخر ينساق إلى الوقوف موقف الارتياب والتشكيك في إخلاص قادة دولتهم ونزاهتهم، وإلى الطعن في سلامة وجدوى تدابيرهم وقراراتهم ومخططاتهم الرامية إلى تنمية البلاد برمتها.
إنني أدعوهم إلى ترجيح الحكمة وتحكيم العقل؛ فالحفاظ على صحة المواطنين وعلى البيئة التي يعيشون فيها خط أحمر لا يمكن للدولة أو غيرها تجاوزه. إن المواطنين هؤلاء هم ثروة البلاد الحقيقية، الثروة التي لا تنضب ولا يطولها النفاد.
إن فيكم من الروح الوطنية والغيرة على الوطن ومصالحه ومن حس المواطنة الحقة ما سيحملكم على ذلك. وأنا كلي ثقة من أن آفاقا واعدة تنفتح أمام جنوبنا الكبير بفضل ما تتحلون به من علو الهمة وجد في السعي وقدرة خبرناها فيكم على مغالبة الصعاب ورفع التحديات وكسب الرهانات.
إن فيكم نخوة تأبى على الوطن الضيم، وإباء لا يرضى الهوان ولا الوقوع في براثن من يتربصون به الدوائر إن دبت بين أبنائه الفرقة واستشرى فيهم الانقسام.
إنه ليحذوني عميق اليقين من أننا سنتخطى كلنا جميعا في كنف الأخوة التي لم نتنكر لها أبدا والتي تزداد قوة يوما بعد يوم، الأخوة التي وسمت على الدوام العلاقات بين المواطنين بميسمها، وفي إطار التشاور والحوار المطبوع بالهدوء والسكينة سنتخطى كافة الصعوبات التي قد تعترض سبيل مسيرتنا المشتركة صوب التقدم والرفاه الذي يعم نفعه المجموعة الوطنية قاطبة.
إنني أعلم كذلك أن كل فرد منكم يضع المصالح العليا للوطن فوق كل اعتبار، ومن ثمة يتعين علينا الإقرار بأنه لا سبيل إلى التخطيط للمراحل المقبلة لتنميتنا الوطنية إن لم نكن على إلمام كاف بمكنونات باطن أرضنا من الغاز والبترول ومن الغاز الصخري.
إننا قد أقدمنا على مباشرة عمليات استكشاف قدرات البلاد من الغاز الصخري، وكل ما يجري حاليا ينحسر في عمليات الاستكشاف والتقييم لا غير، دون أن يغيب عنا ولو للحظة أنه لا يحق ولا يمكن لأحد أن يجنح إلى التصرف على نحو يضر بمصالح المواطنين وبالبيئة وبالسلامة الجيولوجية لأية منطقة من مناطق البلاد، وانطلاقا من قناعات ثابتة ومؤكدة لا يمكن نقضها. وإننا سنلتزم بهذا النهج حتى يبلغ مبلغه.
هذا وما دمت بصدد مفاتحتكم حول مشاغلي ذات الصلة بجنوب بلادنا، هناك أمر أثار خلال الأيام الأخيرة بعض التساؤلات؛ وأعني به التقسيم الإداري الجديد المزمع إجراؤه في مناطق الجنوب والهضاب العليا.
في هذا الشأن، لا بد لي أن أطمئن المواطنات والمواطنين بأن ما تم إعلانه من الإجراءات سينفَّذ فور الفراغ قبليا من الإجراءات التنظيمية. في انتظار ذلك تعكف القطاعات المعنية على تأمين الظروف التقنية، وتوفير مختلف الوسائل اللازمة لإنجاح العملية.
أيتها السيدات الفضليات،
أيها السادة الأفاضل
هناك انشغالات بل توجسات تؤرقني؛ فمن الفائدة لي ولكم أن أغتنم هذه المناسبة وأفضي لكم بها ونحن نحيي ذكرى هذا اليوم الأغر، الذي بدأت بفضله الدولة الجزائرية الحديثة الدولة التي حلم بها الشهداء، تخرج إلى الوجود. هذه الدولة التي جاءت لتخدم الشعب الجزائري الذي يصبح مدينا لها مقابل ذلك بصونها والدفاع عنها؛ لأن ديمومتها لا تتأتى بإخلاد مواطناتها ومواطنيها إلى الحياد أو إلى الوقوف وقفة المتفرج في هذا الظرف الذي نرى فيه الكثيرين منا ينساقون، ويا للأسف، لأسباب مفتعلة باطلة، إلى سقوط أخلاقي، سقوط حضاري يتنافى وكل مقومات المواطنة الصادقة المسؤولة.
لما كنت من هذا الشعب ونذرت حياتي لخدمته ومقاسمته سراءه وضراءه يملي علي الضمير والمنصب حيث بوّأني بمحض اختياره، أن أصارحكم وأقول لكم إنني متوجس خيفة مما قد يقدم عليه من منكرات أناس من بني جلدتنا اعترتهم نزعة خطيرة إلى اعتماد سياسة الأرض المحروقة في مسعاهم إلى الوصول إلى حكم البلاد، حتى عب الأبي الأريب، الذي يمقت الشر ومن يتعاطاه، ولا يروم سوى الخروج مما بقي من تخلفه بتحويل طاقة شبابه كل شبابه، إلى حراك وطني شامل عارم يبني ولا يهدم.
نحن الآن أمام حالة اضطرار إلى إعمال الحزم والصرامة، كل الحزم والصرامة، في الدفاع عن هذه الدولة، فهو واجب دستوري، واجب قانوني، واجب شرعي وأخلاقي لا يجوز لا تأجيله ولا التقاعس عنه.
يجب على أخيار هذه الأمة أن يتجندوا ويتكتلوا من أجل رص بنيان الجبهة الداخلية؛ درءا لمخاطر السياق الراهن في منطقتنا التي تعج بشتى أنواع الاضطرابات والتهديدات.
إن بناء هذه الجبهة الداخلية يعنينا جميعا، ووسيلته الحوار وتوحيد الكلمة والمواقف. ولما كنا نؤمن بفضائل الحوار ونحبذ الجنوح إليه ونقبله مع من خالفنا في التصور السياسي لتدبير شؤون البلاد ومن ناقضنا بأحسن مما نأتي به، لا نرى ضيرا في أن نطرق باب هذا الحوار على ألا يكون من يأتي إليه ذا موقف مبيّت على المساس بما هو قائم بمقتضى الدستور ومكرس بالإرادة الشعبية الصريحة. الجزائر باقية، وستظل بإذن الله عزيزة كريمة بأخيارها.
في مثل هذه المناسبة تجب التحية لكل من هم جديرون بها من خدمة الدولة بمؤسساتها وإداراتها، وإلى رجال الجيش الوطني الشعبي الأشاوس، إلى ضباطه وصف ضباطه وجنوده البواسل وكافة أسلاك الأمن الذين يدافعون عن حمى الجزائر رابضين على كل حدودها، وإلى الذين يجوبون منهم أوعار هذا الوطن وسهوله من أجل اجتثاث الإرهاب المقيت من جذوره وقطع شأفته.
والتحية تجب أيضا في هذا المقام إلى كل أعوان الدولة في جميع القطاعات، الذين يسهرون على بنائها وترقية اقتصادها ومصلحة شعبها.
ولا يفوتني أن أزجي التحية كذلك إلى كافة المواطنات والمواطنين الذين يدلون بدلوهم بما يتحلون به من إخلاص وتوثب ومن وعي بالتحديات التي لا بد لبلادنا من مغالبتها في تنشيط مسارها التنموي على جميع الصعد وفي ازدهارها”. (واج)