وثيقة

رسالة الرئيس بوتفليقة بمناسبة انعقاد الدورة الـ35 لمجلس وزراء الداخلية العرب

رسالة الرئيس بوتفليقة بمناسبة انعقاد الدورة الـ35 لمجلس وزراء الداخلية العرب
  • 2078

وجه رئيس الجمهورية، السيد عبد العزيز بوتفليقة أمس، رسالة بمناسبة انعقاد الدورة الـ35 لمجلس وزراء الداخلية  العرب. 

فيما يلي نصها الكامل:

«بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.

أصحاب السمو والمعالي، وزراء الداخلية

معالي السيد أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية

معالي الدكتور محمد بن علي كوماني الأمين العام لمجلس وزراء الداخلية العرب

أصحاب السعادة، السفراء والسادة أعضاء الوفود،

حضرات السيدات والسادة،

إنه لمن دواعي الشرف والاعتزاز أن نرحب بكم في بلدكم الجزائر التي كانت، وما زالت، حريصة على لـمّ الشمل وتعزيز دعائم وحدة العمل العربي المشترك، غايتنا هذه التي ننشدها جميعا باعتبارها السبيل الوحيد لضمان مناعتنا وصمودنا أمام التحديات الراهنة التي لا تخفى على بصائركم الخبيرة بطبيعتها والمستشرفة لعواقبها.

يعتبر حضوركم هذه الدورة تعبيرا بليغا عن حرصكم على ترقية العمل العربي الأمني  الـمشترك، الذي أضحى سلوكا راشدا في منهجية التعامل وتقويما متزنا يتنامى بنوعية هادفة، تؤصل للأسس وتستشرف الـمبتغى الذي يذلل الصعاب بحصافة وتبصر يجوز لنا أن نعتد بالعمل المتواصل الذي يقوم به مجلسكم من خلال مختلف هياكله وآليات عمله، على مدار السنة، برهانا على إيماننا جميعا بمحورية العمل الأمني الـمشترك بين الـمصالح الأمنية لبلداننا، وعلى عزمنا الصريح على ترسيخ وتمتين هذا التعاون الأمني العربي، وتعزيز التنسيق بين مختلف الأجهزة والأسلاك الأمنية العربية.

أصحاب السمو والمعالي والسعادة،

السيدات الفضليات، السادة الأفاضل،

تنعقد هذه الدورة الخامسة والثلاثين ومناطق عزيزة من وطننا العربي ما زالت تمر بظروف بالغة الخطورة أجل، ما تزال بعض بلداننا العربية تكابد الأمرين بسبب حالة  اللاإستقرار الأمني الذي تتسبب فيه الأعمال الإرهابية ونشاط الجماعات الـمتطرفة التي تزرع الرعب والعنف في ربوعها.

أما المحيط الإقليمي لمعظم دولنا العربية فهو الآخر ما زال يشهد نشاطا مقلقا لجماعات متشددة تمارس كل أشكال الإجرام والعنف حوالينا، وتسلك كل السبل الـمتاحة لتهدد أمن البلدان التي تنشط بها وكذا أمن واستقرار ما جاورها من البلدان.

فالوضع هذا، بكل حساسيته ودقته وتناقضاته أحيانا، يستوجب منا التحلي باليقظة والارتقاء بالتعاون والتنسيق الدائم بيننا إلى أعلى الدرجات، بما يتيح لنا ضمان أمننا جميعا و استقرار دولنا.

وفي هذا المقام، يجب التنويه بالتطور الإيجابي الذي بدأ يتماثل له الوضع الأمني في بعض البلدان العربية التي عرفت، بحنكة أبنائها، كيف تواجه كل محاولات التقسيم التي تحاولها بعض الأطراف الحاقدة على أمتنا العربية.

أصحاب السمو والـمعالي والسعادة،

السيدات الفضليات، السادة الأفاضل،

إن الحرب على الإرهاب غير مرتبطة بجدول زمني أو بنطاق جغرافي، بل هي مسألة تظل قائمة ما دام هناك تهديد للمواطنين وممتلكاتهم، وما دام هناك سعي من قبل هذه المجموعات الضالة لضرب استقرار مؤسسات الدولة أو محاولة فرض مرجعيات دينية أو إيديولوجية غريبة عن شعوبنا. ولا يختلف اثنان في أن أول خطوة للقضاء على الإرهاب هي تجفيف منابعه الفكرية وبيئته الاجتماعية وتدمير شبكاته الاتصالية والتواصلية بعمل مكثف على الـمستوى التربوي والإعلامي والثقافي والإرشاد الديني بما يحد من انتشار النزعة التطرفية ويجنب الشباب الانسياق  وراء هذا الوهم القاتل.

لقد تلقت التنظيمات الإرهابية خلال السنة الفارطة ضربات قاصمة في عدد من البلدان العربية وتم تفكيك العديد منها بعدما كادت تأتي على الأخضر واليابس فيها وبعد أن استولت على أجزاء واسعة من تراب هذه البلدان ورهنت مستقبل شعوبها وقيدت مواطنيها بربقة العنف الفظيع والتطرفي ومارست عليهم كل أنواع الظلم والتنكيل والعبث بالنفس البشرية.

اليوم، نشهد اندحار هذه الـمجموعات الإرهابية واضمحلالها في بعض البقاع من وطننا العربي واسترجاع المناطق التي كانت تنشط فيها لاستقرارها وعودة الأمن إليها إلا أن هذا لا يعني بتاتا انتهاء التهديد الذي قد ينجم عن بقايا عناصر هذه التنظيمات الإرهابية وزوال خطرها. بل بالعكس، لقد أخذ خطرها وتهديدها يعاودان الرجوع في أشكال جديدة لاسيما بعد تمكن بعضهم من الهروب والفرار نحو مناطق صراع أخرى ببلداننا العربية منخرطين في مجموعات إجرامية ناشطة بها وبتسميات غير معروفة في كثير من الحالات. وهذا ما يعرف بتشظي الجماعات الإرهابية وتفريخها بعد أن تنشئ لنفسها بيئة حاضنة.

هذا الأمر يقتضي منا جميعا العمل على اعتماد إجراءات دقيقة لتأمين الـمعابر الحدودية واتخاذ تدابير أمنية احترازية واستباقية للإنذار المبكر والتبادل المكثف للمعلومات ومنع اختراق الحدود.

أصحاب السمو والمعالي والسعادة

السيدات الفضليات السادة الأفاضل

ما يزال الإرهاب يتربص بأمننا واستقرار بلداننا وإن تغيرت الظروف وتعددت الأشكال وتنوعت التهديدات تبقى مواجهة هذا الخطر الإرهابي الذي اتضح امتداده الدولي وتبين للجميع تهديـده الـذي لا يســـتثني من خارطتـــــه أي دولــــــة ولا أي ملة من صميم مسؤولياتنا وصلب مساعينا، وهو الأمر الذي يستلزم منا اليقظة الدائمة والحضور المستمر والوعي العميق بحساسية الموقف.

من هذا المنطلق، علينا أن نكيف مساعينا في مكافحة هذه الظاهرة الإرهابية مع كل الأشكال التي تتخذها باستمراري وأن نعمل على تحيين آليات ومضامين التنسيق بين مصالحنا الأمنية بما يتماشى وهذه التطورات التي يشهدها العمل الإرهابي.

من جانب آخر، يتعين علينا مواصلة العمل معا في التصدي لهمجية الإرهاب بلا هوادة وإزالة كل العوامل التي يتغذى منها والبيئة الحاضنة له، وتجفيف كل منابع تمويله ودعمه وفوق كل ذلك التأكيد على أهمية تجريم دفع الفدية للإرهابيين.

في سياق ذي صلة، يأتينا من نقاشات تنظم حول موضوع الإرهاب هنا وهناك أن بعض  مضامينها السلبية تطال الدين وتقع في خطأ فادح يربط الإرهاب بالديانات وبالأخص عندما تربط هذه الظاهرة المقيتة بالدين الإسلامي الحنيف، الذي هو دين السلـم والأمن و قبول الآخر والحاضن للجميع في ظل الاحترام المتبادل والتعايش بين بني الإنسان. إن إلصاق الإرهاب بالإسلام الحنيف ظلم وعدوان غير مقبول، والإسلام من الإرهاب بريء  والإرهاب ليس له دين ولا وطن ولا حدود.

علينا أن نهيب بالعلماء والـمرجعيات الدينية ومراكز البحث الأكاديمي أن يعملوا على تجديد الخطاب الديني وتخليصه من الشوائب التي علقت به، وتحرير الفتوى من قبضة أشباه الفقهاء وحماية الإسلام ممن يحاولون احتكاره. فالعمل يبدأ من الداخل أولا، مع العمل تجاه الآخر الذي كرس صورة نمطية عن ديننا السمح، فربطها بالتحجر والتطرف والإرهاب، وكل ذلك مغالطات وجب تصويبها وتصحيحها.

من جانب آخر، تجدر الإشارة كذلك إلى أن ما زاد الوضع تفاقما هو التفاعلات والارتباطات الـمختلفة بين الإرهاب وأشكال الإجرام العابر للأوطان، والتي زاد من اتساع رقعتها واشتداد خطورتها استشراء تسخير الوسائل التكنولوجية الحديثة في ارتكاب الجرائم البشعة والترويج لأفكارها المتطرفة والضالة والتغرير بأبنائنا وشبابنا واستقطاب منخرطين جدد نحو مناطق النزاع والتوتر.

إن الحركات الإرهابية والإجرامية تسعى دائما إلى توظيف جميع التقنيات الذكية لتحقيق أهدافها وتسخيرها لنشر أفكارها الـمنحرفة والهدامة بأساليب متطورة ومتلائمة مع مستجدات العصر.

فإلى جانب الخلايا التقليدية التي تبقى دائما الـمرجعية الأساس للـمجموعات الإرهابية، وإن اختلفت تسمياتها، ظهرت خلايا إرهابية سبيريانية تنشط على مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي للقيام بعمليات التحريض والتجنيد وجمع التمويل واختراق الـمواقع الالكترونية وشن هجمات إلكترونية على مواقع مؤسسات حكومية أو خاصة بهدف الإضرار بها.

لقد أضحى هذا الفضاء الافتراضي تحديا أمنيا لبلداننا العربية، خصوصا أنه يمثل ملاذا للتنظيمات الإرهابية وكل الشبكات الإجرامية لكونه غير مرئي، لاسيما تلك التي تنشط في الاتجار بالبشر والأعضاء البشرية والمهاجرين غير الشرعيين، والمتاجرة بالـمخدرات والأسلحة والـمتفجرات، وتزوير الهويات والـمستندات، فضلا عن دوره في تجنيد المقاتلين الجدد وربط شبكات المقاتلين بعضهم ببعض، وتوفير مصادر تمويل خارج الرقابة المنتهجة في إطار تجفيف منابع تمويلها التقليدية.

إن الطفرة الهائلة التي شهدها انتشار تكنولوجيات الاتصال والـمعلومات، ما زالت حبلى بتحديات جسام، وهو ما يجعل مكافحة الجرائم الإلكترونية في مقام الأولوية بالنسبة للجزائر التي بادرت إلى اعتماد العديد من الآليات القانونية والتقنية والعملياتية التي لـم تكن تأخذ في الحسبان هذا الجانب الأمني الجديد.

ومن ثم، كانت الجزائر من الدول السبّاقة إلى المصادقة على الاتفاقية العربية لـمكافحة جرائم تقنية المعلومات، كما شرعت حاليا في دعم الإطار القانوني الخاص بمكافحة الجرائم الإلكترونية وتحديد كيفيات الرقابة على الانترنت والتصدي لأشكال الإجرام المرتبط بالشبكة الافتراضية. وهذا العمل يتطلب تحكما عاليا في هذه التكنولوجيا المتسارعة، واستثمارا فعالا للمعلومة الالكترونية، وتتبعا دقيقا لهذه الشبكات وأصحابها.

هذا، وتم إنشاء هياكل وأجهزة تعنى بمكافحة هذه الجرائم الالكترونية وعلى رأسها الهيئة الوطنية للوقاية من الجرائم المتصلة بتكنولوجيات الإعلام والاتصال ومكافحتها، ومراكز عملياتية لدى مختلف الهيئات الأمنية.

أصحاب السمو والـمعالي والسعادة،

السيدات الفضليات، السادة الأفاضل،

في سياق حديثنا عن كل هذه التحديات، يقتضي منا المقام التطرق إلى ظاهرة أخرى لا تقل خطورة عن سابقاتها، من حيث الـمساس باستقرار منطقتنا العربية، ألا و هي  ظاهرة الهجرة غير الشرعية التي بدأت تأخذ أبعادا مقلقة، لاسيما في الآونة الأخيرة.

إن العديد من بلداننا العربية باتت تتوافد عليها أعداد متزايدة من المهاجرين الأجانب، الذين دفعت بهم الظروف الأمنية الخاصة السائدة في بلدانهم إلى النـــــزوح نحو بلداننا، إما للاستقرار بها ظرفيا أو بقصد العبور إلى وجهات أخرى.

فلئن كان من الواضح أن هذه الظاهرة مرتبطة بوضع إنساني خاص يستوجب منا  مراعاته والقيام بواجبنا نحو هؤلاء، فلا يمكن لنا أن نتجاهل مساعي  الشبكات الإجرامية في استغلال هشاشة أوضاع المهاجرين وتوظيفها للقيام بأعمالمن شأنها الـمساس بأمن بلداننا و استقرارها.

لذا، يتعين علينا جميعا تكثيف جهودنا الـمشتركة لـمعالجة هذه الـمسألة، ضمن مقاربة مشتركة، مبنية على الاحترام التام للقانون ولحقوق الإنسان والسعي الحثيث من أجل الـمحافظة على سلامة أوطاننا وأمنها.

إن الجزائر، من منطلق مبادئها الإنسانية وثقافة شعبها المضياف وحماية منها لضحايا الصراعات والنزاعات، كانت سبّاقة إلى احتضان اللاجئين الذين قصدوها من مختلف المناطق وسمحت لمواطني الدول، التي اعترتها هذه الأوضاع الصعبة، بالدخول إلى أراضيها والإقامة بها، وعملت على إيجاد حلول واقعية وملائمة للتكفل بظاهرة الهجرة

والـمهاجرين، تستمد محتواها من تصور شامل يراعي متطلبات الأمن والتنمية واحترام كرامة الإنسان، والتركيز على البعد الإنساني للـمهاجرين واللاجئين الذين يعدون ضحايا أزمات اضطرتهم إلى خوض هذا الـمسلك.

أصحاب السمو والـمعالي والسعادة،

السيدات الفضليات، السادة الأفاضل،

أمام كل هذه التحديات، استطاعت الجزائر أن تبلغ في الـميدان نجاعة في معالجة مثل هذه الظواهر، ولعل أبرزها استئصال ظاهرة الإرهاب من جذورها اعتمادا على سياسة حكيمة ووفقا لنظرة متكاملة ومقاربة شاملة تجمع بين العمل الأمني والسياسي وكذا التنموي.

فبالموازاة مع عملية الاستئصال التي اضطلع بها جيشنا الوطني الشعبي وكل الـمصالح الأمنية، ضد الجماعات الإرهابية، كانت الـمصالحة الوطنية الـمرجع الذي زكاه الشعب

وعملت السلطات على تنفيذه، وها نحن اليوم نقطف ثمارها وهذا ليس معناه أن خطر الإرهاب قد زال، بل نحن مدركون وواعون باستمراره في التربص بأمننا واستقرارنا.

وباعتبار أن الجزائر يرتبط مصيرها ارتباطا وثيقا بمصير العالم العربي، فإنها لم تبخل بتقاسم تجربتها في مكافحة الإرهاب، هذه التجربة التي مكنتها من أن تقطع أشواطا معتبرة في إقامة دولة الحق والقانون التي باتت الركن الركين  للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وقناعة منها بضرورة الاطراد في هذا الـمسار في أحسن الظروف، أقرت الجزائر، من منطلق تجربتها الـمشهود بها في مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف، جملة من  الإصلاحات في إطار رؤية استشرافية بعيدة الـمدى، تم تكريسها ضمن أحكام الدستور  المعدل في سنة 2016 كخط أصيل وثابت، تتجلى أبرز معالمها في ضرورة مواصلة تعزيز دولة الحق والقانون بغية مساندة الـمسار الديمقراطي وتجذير الحكم الراشد.

أصحاب السمو والـمعالي والسعادة،

السيدات الفضليات، السادة الأفاضل،

لا يفوتني، وأنا أختم رسالتي هذه، أن أنوه بما وصل إليه مجلسكم من تطور و أثمن عاليا النتائج الطيبة التي أثمـرتها أعماله وإنجازاته، داعيا الجميع إلى الـمثابرة في ترقية العمل العربي الـمشترك تماشيا مع الـمستجدات الاستراتيجية التي تواجهنا جميعا.

إنني على يقين من أن دورتكم هذه ستكلل بالنجاح والتوفيق، وستسفر عن نتائج  وتوصيات جديدة من شأنها أن تعطي دفعا قويـا لمســـــاعي التنسيـق الأمني والتعاون بين الـمصالح الـمعنية، قصد تحقيق ما نصبو إليه جميعا من أمن  واستقرار لأوطاننا وتوفير أفضل مستويات الحماية والأمن لشعوبنا من كل أشكال التهديد.

أجدد ترحيبي بكم، أشقاءنا أصحاب السمو والـمعالي وزراء الداخلية العرب وجميع  مرافقيكم، في بلدكم الجزائري وأتمنى أن يسدد الله خطانا لـما فيه خير أمتنا ورقـيها. ستجدون منا كل الدعم والـمؤازرة في مسعاكم من أجل بلوغ الغايات الـمنشودة».