الهجوم على "بريد وهران" في 5 أفريل 1949
عملية مفصلية في تمويل الكفاح المسلح ضد المستعمر

- 418

❊ تنظيم محكّم وتنفيذ دقيق أخلط أوراق بوليس المستعمر
يعتبر الهجوم على "بريد وهران" في 5 أفريل 1949 إحدى أهم العمليات النوعية البارزة التي نفذتها المنظمة الخاصة التابعة للحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية، ومحطة هامة لتمويل الكفاح المسلح ضد المستعمر الفرنسي الغاشم، والإسهام في إعداد العدة للثورة التحريرية الخالدة. سمحت هذه العملية، التي نفذها "كوموندوس" تابع للمنظمة الخاصة (الجناح المسلح للحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية)، بالحصول على المال لاقتناء الأسلحة التي استخدمت فيما بعد في اندلاع ثورة 1 نوفمبر 1954 المظفرة.
واعتبر أستاذ التاريخ بجامعة وهران 1 "أحمد بن بلة"، محمد بلحاج، أن المجازر الرهيبة التي اقترفها المستعمر الفرنسي ضد الجزائريين في 8 ماي 1945 "أكدت للشعب الجزائري أنه لم يعد من جدوى من العمل السياسي، ولا بد من الإنتقال إلى العمل المسلح من أجل نيل الاستقلال". من هنا، شرع قادة المنظمة الخاصة في التفكير في طرق ووسائل لجمع أموال لتمويل تنفيذ عمليات مسلحة ضد المستعمر الفرنسي كونها الوسيلة الوحيدة لمجابهته. وكان المسؤول الأول عن المنظمة الخاصة، حسين آيت أحمد، الذي أعطى الموافقة على تنفيذ هذه العملية وأوكل التجهيز لها واللوجستيك والدعم لكل من المسؤول الجهوي لمنطقة الغرب، أحمد بن بلة، والمسؤول المحلي، حمو بوتليليس.
في بادئ الأمر، تم التفكير في الهجوم على قطار نقل الأموال بين وهران وبشار، غير أنه "تم العدول عن الفكرة كونها معقدة ومحفوفة بالمخاطر وتحتاج إلى عناصر مختصة وإمداد كبير"، وفقا للأستاذ بلحاج. لهذا، اقترح المناضل جلول نميش، المدعو "بختي"، الذي كان عاملا بـ"بريد وهران" استهداف هذا المركز الجهوي الذي يمون مراكز "بريد وهران" ومدن غرب البلاد، حيث كان عليه الدور لاكتشاف الثغرة التي يمكن الدخول منها.
وتم التحضير الجيد للعملية، حيث استغرق ذلك ثلاثة أشهر كاملة تم خلالها استئجار بيت بحي "قمبيطة" (الصديقية) بوهران من قبل المناضل في المنظمة الخاصة، غذيفي بن علي، وأصبح المكان بمثابة قاعة للعمليات والتحضير للهجوم. كما تم استخدام مسكن المناضل الزاوي عبد القادر بحي الصنوبر (بلانتير سابقا) لإيواء المناضلين وبعض منفذي العملية وتحديد مسكن حمو بوتليليس بشارع "معسكر" لتحويل الأموال التي سيتم الحصول عليها لاحقا من هذا الهجوم إليه.
لمعاينة المكان، تم الاستقرار على المناضل سويداني بوجمعة للقيام بعملية مراقبة المبنى ودخول وخروج السيارات والموظفين لمدة 15 يوما، حيث تنكر كبائع على عربة بمحاذاة المركز البريدي، إضافة إلى تأجيره لغرفة بفندق مطل على المركز البريدي لمتابعة المراقبة في الليل. كما قام أحمد بن بلة بالتنكر في زي عامل للدخول واستكشاف المركز من الداخل، حسب المؤرخ، الذي أضاف بأنه كان من المتوقع تنفيذ العملية في شهر مارس 1949، غير أنه تم تأجيلها بسبب عطب مسّ السيارة التي كان من المفترض الهروب بها، إلى غاية أفريل من نفس السنة. ووقع الاختيار على ستة مناضلين للقيام بهذا الهجوم، حيث يتعلق الأمر بكل من بلحاج بوشعيب، المسلح الوحيد في العملية، ومحمد بويحيى وعمر حداد ورابح لورغيوي وسويداني بوجمعة ومحمد خيثر.
بعد أيام من المراقبة الداخلية والخارجية للمبنى، استقر الرأي على الدخول من مصلحة التلغراف التي تعد الثغرة التي وجدها المناضل جلول نميش من أجل الولوج إلى المبنى، كونها المصلحة الوحيدة التي تفتح في الصباح الباكر. وتمت سرقة سيارة أحد الأطباء الفرنسيين للقيام بالعملية. في يوم 5 أفريل 1949، دخل المناضلون من مصلحة التلغراف بعد إلهاء عامل فيها، وتوجهوا إلى الطابق العلوي الذي تتواجد فيه الخزينة التي كانت تحتوي على أكثر من 30 مليون فرنك، غير أنهم فوجئوا بأحد العمال الذي كبس زر النجدة لتنبيه الشرطة، فاستولى المهاجمون فقط على الأموال التي كانت مخصصة للتوزيع على 7 مراكز بريدية بوهران بقيمة 3.178.000 فرنك فرنسي ثم غادروا المكان.
تم نقل الأموال بطريقة سريعة إلى منزل حمو بوتليليس الذي تم اختياره لإخفاء الأموال، ثم قام محمد خيضر بنقل الأموال إلى الجزائر العاصمة ووضعها تحت تصرف قيادة المنظمة الخاصة. وقد ساهمت الأسلحة التي تم اقتناؤها بأموال "بريد وهران" في إطلاق أولى رصاصات ثورة نوفمبر الخالدة، وبفضل هذه الأموال التي غنمت من الهجوم، تم شراء أكثر من 350 قطعة سلاح وذخيرة من ليبيا وتم أخذها إلى منطقة "مشونش" بين بسكرة وباتنة وخبئت في مطامير وكانت تستخرج كل ستة أشهر لتنظيفها وإعادة إخفائها، إلى غاية اندلاع الثورة التحريرية المجيدة، يضيف الأستاذ محمد بلحاج، مستدلا بشهادة الراحل أحمد بن بلة، أحد منظمي العملية.
قبيل اندلاع الثورة التحريرية، تم توزيع هذه الأسلحة بمنطقة شرق البلاد، حيث جاء في شهادة الراحل أحمد بن بلة، أن "أموال عملية بريد وهران ساهمت، بقسط كبير، في تفجير الثورة بمنطقة الأوراس". وأشار في هذا الصدد إلى وجود عمليات هجومية في مناطق أخرى لجمع الرصاص والمتفجرات والأسلحة وبنادق الصيد والأسلحة البيضاء، غير أن عملية "بريد وهران" كانت "مفصلية في تاريخ الكفاح المسلح ضد المستعمر، بالنظر إلى التنظيم المحكّم والتنفيذ الدقيق وأثرها على انطلاق الثورة"، حسب ذات المؤرخ. بعد العملية، قامت السلطات الاستعمارية بتحريات مكثفة دون أن تصل إلى أن للهجوم علاقة بالقضية الوطنية، إذ كانت تظنه مجرد عملية سطو مسلح على مركز بريدي وكانت تحقيقاتها تصب في هذا الجانب، ولم تدرك علاقة المنظمة الخاصة إلا بعد سنة كاملة.
وتم القبض على العديد من المشاركين في العملية، على غرار حمو بوتليليس الذي حكم عليه بـ7 سنوات سجنا (لم يظهر عنه أي خبر بعد خروجه سنة 1957)، ورابح لورغيوي بـ20 سنة سجنا وفلوح مسكين بـ5 سنوات وبن نعوم بن زرقة بأكثر من 10 سنوات. ويرى المؤرخ محمد بلحاج أنه من الضروري "تكثيف وتعميق الدراسات المونوغرافية والبيوغرافية حول هذه العملية، التي لم يكشف بعد عن كل أسرارها"، مع تسليط المزيد من الضوء على العديد من المشاركين فيها، على غرار الحاج بن علة وبلقاسم الزاوي وجلول نميش ونعوم بن زرقة وحسين عبد الباقي وغديفي بن علي وعمار حداد ومحمد علي خيثر وغيرهم..