مجازر 8 ماي 1945 تخلد بشاعة المستعمر
فصل الخطاب لصالح خيار الثورة
- 843
بحلول ذكرى الثامن ماي 1945، تستعيد الجزائر شريط المجازر الوحشية التي ارتكبها المحتل الفرنسي في حق الشعب الذي ساهمت تضحياته في فصل الخطاب لصالح خيار الثورة المسلحة كحل وحيد لقطع دابر الاستعمار وممارساته اللاإنساني..فبقدر ما أبانت هذه المجازر التي كانت فاصلة بين مرحلة النضال السياسي والإعداد للثورة المسلحة، الوجه الوحشي للمستعمر الفرنسي، بقدر ما ساهمت في توحيد صفوف الحركة الوطنية حول مشروع الكفاح المسلح، الذي أعاد للجزائر حريتها واستقلالها ودحض ظلم الاستعمار الغاشم.
تحل اليوم هذه المحطة التاريخية لنستعيد معها تلك الأحداث الدامية التي صدمت العالم بأسره، وأرعبته بصور التقتيل الوحشي التي تناقلتها وسائل الإعلام الحرة من مدن سطيف وقالمة وخراطة وغيرها، ليعطي بذلك لواجب الذاكرة حقه في استعادة عمق معاناة الشعب الجزائري من الاحتلال الفرنسي، وجسامة التضحيات التي قدمها ثمنا للحرية والاستقلال في ثورة مظفرة، يشهد التاريخ على أنها من أعظم الثورات في العالم المعاصر.
وشكلت هذه الأحداث شهادة قوية وواقعية على طبيعة الاستدمار ووحشيته وتجرده من كل قيم الإنسانية، إضافة إلى كونها نقطة انطلاق مرحلة حاسمة في مسار تجذير الحركة الوطنية وتوحيدها، وبداية عملها على التحضير لثورة التحرير المجيدة. فقد انتظر الشعب الجزائري بلهفة انتصار قوات الحلفاء على النازية، إيمانا منه بأن الاستعمار الفرنسي سيفي بوعده بمنح الحكم الذاتي لمستعمراته فور تحقيق النصر. وفي الثامن ماي من عام 1945 خرج الجزائريون على غرار باقي سكان المعمورة للاحتفال من جهة ولتذكير فرنسا بالتزاماتها من جهة ثانية لكن في ذلك اليوم ظهر الوجه الحقيقي للاستعمار الذي كان لا يعرف لغة غير لغة السلاح والقتل.
وشرع الجزائريون في التظاهر في 1 ماي 1945 بمناسبة اليوم العالمي للعمال، إذ بادر حزب الشعب الجزائري بتنظيم مظاهرات عبر التراب الوطني وكانت معظمها سلمية، فأعد العلم الجزائري وحضر الشعارات مثل ”تحرير مصالي- استقلال الجزائر” وغيرها، شارك فيها عشرات الآلاف من الجزائريين في مختلف أنحاء الوطن.
وعملت السلطات الاستعمارية على استفزاز المتظاهرين، حيث أطلقت الشرطة النار عليهم وقتلت وجرحت عددا كبيرا منهم. وبالرغم من ذلك لم تتوقف المظاهرات، وتواصلت بالتالي الأجواء المشحونة منذ الفاتح من شهر ماي1945، إذ كانت كل المعطيات والمؤشرات توحي بوقوع أحداث واضطرابات حسب التقارير التي قدمت من طرف الحكام المدنيين في ناحية سطيف وقالمة. وبدأت خيوط مؤامرة جديدة تنسج في الخفاء، أدت إلى وقوع أحداث الثلاثاء الأسود (8 ماي 1945)، وذلك لأمرين اثنين، يتعلق الأمر الأول بعزم الجزائريين على تذكير فرنسا بوعودها، والأمر الثاني خوف الإدارة الفرنسية والمستوطنين من تنامي أفكار التيار الاستقلالي.
وأمام رغبة وإلحاح الشعب الجزائري في الانفصال عن فرنسا ظهرت النوايا الحقيقية للمحتل الغاصب إذ توج الوعد الزائف بخيبة أمل ومجازر رهيبة، تفنن فيها المستعمر في التنكيل بالجزائريين وشن حملة إبادة راح ضحيتها ما يناهز 45 ألف شهيد.
ولازالت إلى يومنا، الشواهد على همجية المحتل الذي مارس سياسة الاستعباد والإبادة، التي جند فيها قواته البرية والبحرية والجوية. منها على سبيل المثال لا الحصر ”جسر العواذر”، ”مضائق خراطة”، ”شعبة الآخرة”، ”كاف البومبا”، ”هيليوبوليس”، ”الكرمات”، ”قنطرة بلخير”، ”منطقة وادي المعيز”…
ولم تكتف الإدارة الاستعمارية بنتائج تلك المجزرة الوحشية، فقامت بحل الحركات والأحزاب السياسية الجزائرية وإعلان الأحكام العرفية في كافة البلاد وإلقاء القبض على آلاف المواطنين وإيداعهم السجون بحجة أنهم ينتمون لمنظمات محظورة وأنهم خارجون عن القانون، فسجلت بذلك أرقاما متباينة من القتلى والجرحى والأسرى، وما أعقبها من المحاكمات التي أصدرت أحكاما بالإعدام والسجن المؤبد والنفي خارج الوطن والحرمان من الحقوق المدنية، إضافة إلى آلاف المصابين نفسيا وعقليا نتيجة عملية القمع والتعذيب والمطاردات والملاحقات.
وبممارستها تلك، وقّعت السلطات الاستعمارية الفرنسية أهم صفحات سجلها الأسود بالجزائر، متجاهلة عواقب تلك المجازر التي شكلت بالفعل منعرجا حاسما في مسار الكفاح التحرري، حيث جعلت هذه المجازر الجزائريين يدركون بأن الاستعمار الفرنسي لا يفقه لغة الحوار والتفاوض وأن ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة. وعليه بدأ التحضير للعمل العسكري، حيث كان الثامن من ماي 1945، المنعطف الحاسم في مسار الحركة الوطنية وبداية العد التنازلي لاندلاع الثورة المسلحة، التي أطلقت شرارتها في الفاتح نوفمبر 1954 ولم تخبو إلا بعد افتكاك الاستقلال كاملا غير منقوص.