الذكرى المزدوجة لـ 20 أوت 1955 - 1956

محطة لاستلهام عبر الشجاعة وبُعد النظر

 محطة لاستلهام عبر الشجاعة وبُعد النظر
  • القراءات: 1017
حنان. ح  حنان. ح
أكد العشرون أوت 1955 و1956 بما لا يدع أي مجال للشك، أن الثورة التحريرية لم تكن مجرد انتفاضة ظرفية أو عبثية، وإنما ثورة تم التخطيط لها بدقة وباحترافية من قبل رجال صنعوا التاريخ بذكائهم ودهائهم، وقبل ذلك بحبهم لوطنهم وترابهم، وبإيمانهم الراسخ بعدالة قضيتهم؛ فهذه المحطة من تاريخ الجزائر التي نحيي اليوم ذكراها السنوية، أظهرت أن مفجّري الثورة كانوا يعتمدون على استراتيجية وعلى عملية تقييم دائمة لعملهم وبين أعينهم الهدف الأسمى، وهو "الاستقلال".
والأكثر من ذلك، أن هذه الذكرى التي اختير أن تحمل اسم "يوم المجاهد" تكريما لهذه الفئة ممن قدّموا الكثير للجزائر، أعطت دفعا هاما للثورة من خلال توسيع مداها، وجعل الشعب يلتف حولها وينضم إليها، وذلك بعد ثمانية أشهر فقط من اندلاعها. ورغم القمع الفرنسي الذي رافق هجومات الشمال القسنطيني في 1955، فإن ما تم تحقيقه كان كله انتصارات، فإضافة إلى المساهمة في فك الخناق عن منطقة الأوراس التي انطلقت منها ثورة التحرير، أكدت الهجومات اتساع رقعة الثورة بانضمام أكبر عدد من الجزائريين إليها، والاقتناع بها كحل وحيد لمواجهة الاستعمار والحصول على الحرية. كما أنها أعطت دعما للقضية الجزائرية التي تم طرحها لأول مرة خلال نفس السنة، في مؤتمر باندونغ بأندونيسيا (أفريل 1955).
ولا بد من القول إنها جاءت نتاج تخطيط سري دام ثلاثة أشهر قبل بدء العمليات العسكرية، وهو ما يشير إلى التنظيم المحكم الذي تميزت به الثورة الجزائرية، والعمل المنسق، وبعد النظر الذي تميزت به رغم أن الثورة بداية من 1955، بدأت تفقد أهم رجالاتها، منهم الشهيد ديدوش مراد، فضلا عن تعرّض قادة آخرين للسجن.
فغياب البعض لم يكن ليضعف من همة الباقين، بل إن ذلك كان يعطيهم قوة وعزما أكبر للذهاب قدما وتحقيق حلم الراحلين؛ فحين استشهد ديدوش مراد حمل زيغود يوسف المشعل، ليحضّر مع رفقائه هجومات الشمال القسنطيني، التي كانت تهدف خصوصا إلى إعطاء الثورة دفعا قويا؛ من خلال نقلها إلى قلب المناطق المستعمرة في الشمال القسنطيني، واختراق الحصار الحربي المضروب على المنطقة الأولى - الأوراس - باستهداف أهم القواعد العسكرية بالمنطقة، ورفع معنويات جنود جيش التحرير بتحطيم أسطورة الجيش الفرنسي الذي لا يُقهر، إضافة إلى تحطيم ادعاءات السلطات الاستعمارية بأن ما كان يحدث هو مجرد أعمال تخريبية يرتكبها متمردون خارجون عن القانون وقطّاع طرق. وأثمرت الهجومات نتائج هامة، منها ظهور الثورة في المدن، وبالتالي توسيع رقعتها الجغرافية وانضمام الشعب لها، إضافة إلى إدراج الملف الجزائري في الأمم المتحدة في شهر أوت 1955.
ورغم أن الثورة الجزائرية قامت على العمل العسكري، فإن الجانب السياسي فيها لا يقل أهمية، ولا يجب أن ننسى بيان أول نوفمبر الذي تضمّن أسس الدولة الجزائرية وعقيدتها، ولهذا جاء تنظيم مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956، ليضع النقاط على الحروف؛ من خلال توحيد النظام العسكري والسياسي، ووضع خريطة جديدة للجزائر، وتقسيم جغرافي جديد، وتأطير جبهة التحرير الوطني في الخارج، إلى غيرها من القرارات الهامة التي خرج بها هذا اللقاء التاريخي، الذي عمل كذلك على تحديد العلاقة بين جبهة وجيش التحرير الوطنيين وكذا بين الداخل والخارج، محاولا احتواء بعض الخلافات التي ظهرت بين الجانبين.
وتكمن أهمية المحطتين اللتين جمعهما تاريخ واحد وفرّقت بينهما سنة واحدة، أنهما جمعا العسكري والسياسي، كما بيّنا أن هناك تطورا في الرؤية لدى مفجّري الثورة وبُعد نظر جعلهم يرون حينها بداية بزوغ بشائر الحرية وإنشاء الدولة الجزائرية من جديد، خاصة أن الانتصارات توالت في الداخل والخارج.
وكم هي مهمة مثل هذه المعطيات التاريخية اليوم لاستلهام ذلك الأسلوب الفريد من نوعه في قهر "المستحيل" وجعله "ممكنا"! ومثل هذه الإرادة يحتاج لها كل الجزائريين اليوم من أجل إبعاد كل الرؤى التشاؤمية أو التعجيزية التي تريد أن تنزع الأمل من قلوب الشباب. واليوم مثل الأمس، يوجد شباب قادرون على رفع كل التحديات مهما كانت صعبة؛ لأنه لا مستحيل مع الأمل، والجزائر تستحق كل التضحيات من أبنائها الذين لا يمكنهم أن يخذلوها؛ لأنهم خير خلَف لخير سلَف.