في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي
الاحتفال بحلول الربيع.. طقوس تأبى الزوال

- 161

تعيش العديد من قرى ومدن سكيكدة، منذ أيام، أجواء وطقوسا اجتماعية بمناسبة دخول فصل الربيع، من خلال إحياء العائلات السكيكدية، لاسيما القاطنة في المناطق الداخلية عادات وتقاليد موروثة عن الآباء والأجداد في كيفية استقبال هذا الفصل المميّز، خاصة وأنّ حياة السكان تكون في كثير من الأحيان، مرتبطة بالأرض وبالفلاحة ومنه بموسمي الزرع والحصد.
لايزال الكثير من السكيكديين إلى يومنا هذا متمسّكين بعادات الأجداد، يستقبلون فصل الربيع بطقوس مميزة، تحمل بين طياتها مظاهر التضامن والابتهاج والتفاؤل بقدوم أجمل الفصول حيث تزهر الحقول وتثمر الزروع وتتفتّح مختلف الأزهار التي يفوح عطرها في كل مكان، ليتحوّل فصل الربيع إلى عيد دأبت العائلة السكيكدية على إعطائه نكهة خاصة وفق تقاليد المنطقة التي تصنع أفراحها، وعلى الرغم من أنّ أشياء تغيّرت بين الأمس واليوم، إلاّ أنّ الاحتفال بقدوم هذا الفصل، يبقى القاسم المشترك بين كل العائلات حتّى وإن كانت لكلّ منها طريقتها الخاصة في الاحتفال.
يقترن الاحتفال بفصل الربيع بولاية سكيكدة، بالتضامن العفوي والتآزر ولمّ الشمل، على الرغم من أنّ العديد من تلك الطقوس الموروثة، بدأت في عصر التكنولوجيا تختفي لتبقى مع الوقت مجرّد عادة، ولم تعد تقتصر إلا على جانب إعداد بعض المأكولات التقليدية.
وعلى طريقة الأجداد يبدأ الاحتفال بموسم الربيع، خلال الأيام الأولى من شهر مارس أو كما يعرف عند الكثير من أهالي المناطق الداخلية من قرى وأرياف وحتّى المدن بـ"ربيع العرب"، إذ يتم الاستعداد له بأيام ويشارك فيه كل السكان، حيث تقوم كل عائلة تشترك مع عدد من العائلات داخل سكنات جماعية أو حتّى عمارات، باقتناء مستلزمات تحضير ما يعرف بـ"لبراج"، كما تمّ الاتفاق عليه من قبل، كل حسب إمكاناتها، فعائلة مثلا تشتري الدقيق وأخرى التمر المطحون أو كما يسمى "الغرس" وأخرى زيت الزيتون، وبعد تحديد يوم بدء الطقوس والذي يكون في غالب الأحيان يوم عطلة، تلتقي النساء في سطح العمارة أو عند باحة الدار ويشرعن في إعداد "لبراج"، فمجموعة تتداول على تحضير العجيبة، وأخرى تقوم بعملية العجن باليدين وسط أهازيج شعبية يدورأغلبها حول مدح النبي والصلاة عليه، فيما تقوم المجموعة الثالثة بطرح العجينة المحشوة بالتمر وتقسيمها إلى مربعات صغيرة، وبالموازاة مع ذلك، تتعاون مجموعة أخرى من النسوة في عملية الطهي باستعمال "طاجين" مصنوع من الطين، في حين تقوم بعض الفتيات في الزاوية المجاورة ووسط هذا المشهد الذي يشبه خلية نحل، "بمخض" اللبن الموجود بـ«الشَّكْوَة"، إلى أن يصير لبنا يوضع في قارورات مصنوعة من الطين.
لمّات جماعية تعكس الترابط والاحترام
عندما تنتهي عملية تحضير "لبراج"، يلتف الجميع عند وقت الغداء في مجالس واحدة للرجال وأخرى للنساء والثالثة للأطفال ويشرعون في تناول "لبراج" مع اللبن في أجواء احتفالية ربيعية جد مميزة، لا تسمع فيها سوى أحاديث النساء التي لا تنقطع وحكايات الرجال عن أحوال الدنيا.
وبعد الغداء تستمر الاحتفالية إلى غاية المساء، حيث تطهى على الفحم "قهوة العصر" وتوزع في فناجين صغيرة على الرجال، الذين يتجمعون عند مدخل العمارة على شكل جماعات يلعبون بعض اللعب التقليدية مثل "الجربوع"، "الكارودة"، "الدومينو" و"الضامّة" وحتى لعبة "الوراق"، وهم يرتشفون القهوة المعطّرة بماء الزهر، وذات نكهة خاصّة ويتسامرون ويتجاذبون أطراف الحديث عن مواضع الساعة المختلفة سياسية كانت أو اجتماعية، أما النسوة فيجتمعن حول "قهوة العاصر" ويتحدثن عن ذكريات الماضي والمشاريع المستقبلية، في حين تجتمع الفتيات في إحدى زوايا سطح العمارة وهن يرتدين أجمل الثياب التقليدية، فمنهن من يقمن بأعمال يدوية كالطرز وأخريات يتجاذبن أطرف الحديث حول ما يشغل بالهن.
ذكريات محاصرة خلف الأبواب
وبين الأمس واليوم تغيّرت العديد من العادات والتقاليد والمظاهر الاحتفالية التي كانت تميز المجتمع السكيكدي، ونادرا ما نجد العائلات تجتمع وحتى رائحة طهي "لبراج" التي كانت تنبعث من المساكن والمنازل بدأ بالاختفاء، بعد أن أصبحت السكنات محصنة بأبواب حديدية، لتبقى في كلّ هذا وفي عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، "لبراج" واللبن" حاضرين خلال فصل الربيع، وتبقى أيضا العديد من مظاهر التكافل حاضرة، وتبقى طقوس الاحتفال بفصل الربيع حاضرة تأبى الاندثار.