يقاوم الزمن بلونه الأحمر القاني

الطربوش العنابي.. قبعة الذاكرة ووسم المدينة

الطربوش العنابي.. قبعة الذاكرة ووسم المدينة
  • 188
سميرة عوام سميرة عوام

في مدينة تنام على وقع الموج وتستفيق على رائحة الزمن، لا يزال الطربوش العنابي حاضرا كظل لا يفارق ذاكرة المكان. يتدلى اللون الأحمر القاني من رؤوس الرجال، كما تتدلى حكايات الزمن الجميل من نوافذ البيوت العتيقة في بونة، المدينة التي ما فتئت تحمي إرثها بعين حانية وقلب نابض بالتقاليد.

الطربوش هنا ليس مجرد غطاء رأس؛ إنه أكثر من ذلك بكثير... هو توقيع عنابي خالص على جبين التراث، ومفتاحٌ لبوابة الماضي، حين كانت الأناقة تقاس بوقار الطلة ورنين الفتلة الذهبية التي تحيط بحواشي "الكبوس" المصنوع بإتقان اليد وسحر الروح.

من الأزقة إلى الذاكرة، دكان عمي قدور يحكي الحكاية

في حي المدينة القديمة، وبين أزقتها الضيقة التي ما زالت تنبض برائحة الخبز التقليدي والحنين، تبدأ خيوط الحكاية من "مارشي الحوت". ومن هناك، يقودك عبق التاريخ إلى دكان صغير يختبئ بين الجدران، مثل كنز قديم. إنه دكان "عمي قدور"، شيخ سبعيني لا يزال يحمل بين أنامله سر الطربوش، ويعجن الذكريات بخيط الفتلة، ليمنحها حياة أخرى فوق رؤوس الرجال.

يقول "عمي قدور" بصوته الخافت الممزوج بنبرة الاعتزاز، إنه تعلم الحرفة من والده، الرجل الذي كان يُلقب بـ«شيخ الطرابيش" في بونة. يومها، كان الطربوش يُخاط يدويًا، ويُقدم كهدية للأعيان والمشايخ، ويتباهى به الرجال في المناسبات الكبرى، من أعراس إلى طهور، ومن حلقات الحضرة إلى احتفالات المولد النبوي الشريف.

1932 تاريخ أول طرابيش بونة 

يعود أقدم أثر للطربوش العنابي إلى سنة 1932، حسب روايات كبار السن، حيث كانت حياكته آنذاك، فنا قائمًا بذاته، يمارسه الحرفيون في المحلات الخلفية للأسواق الشعبية. لم يكن الطربوش حكرًا على فئة عمرية، بل كان الكبار والصغار يلبسونه في المناسبات، وكان بمثابة توقيع جمالي واجتماعي، يحمل في طياته الانتماء إلى المدينة وأصالتها.

مع مرور الزمن، تغيرت الأزياء، وتبدلت الأذواق، لكن الطربوش بقي واقفًا على رأس الهوية، يُزين رؤوس من يحيون تراث العيساوة، ويتألق في حفلات الختان، ويُشاهد في صور الأعراس العائلية، وكأنه يُطل من الماضي ليذكر الأجيال الجديدة بأن عنابة لا تُفرط في رموزها.

لون العناب.. حين يتحول النبات إلى هوية

ليس مصادفة أن يكون الطربوش "عنابي اللون". فمدينة عنابة، التي اشتُهرت قديمًا بأشجار العناب، التي كانت تحيط بها كالسوار، ورثت من هذه الثمار لونها الأحمر الداكن، وضمنته في كل تفاصيل الزي التقليدي، من "الملاية" و«القندورة"، إلى الطربوش. هذا اللون لم يكن مجرد تدرج لوني، بل تحول إلى دلالة رمزية على الجذور، والكرامة، والعراقة.

في ساحة الثورة، حيث تصطف المقاهي الشعبية على الأرصفة، يتحول الطربوش إلى عنوان ضيافة وأناقة. النادل هنا، لا يكتفي بتقديم فنجان القهوة، بل يقدم عرضا تراثيا أنيقا: طربوش على الرأس، وصينية فضية على اليد، وكؤوس شاي تفوح منها رائحة النعناع والحبق. في الخلفية، تتسلل نغمات المالوف، وبحة حسان العنابي، ليكتمل المشهد بصورة تعجز الكاميرا عن اختزالها، لأنها مشهد يُحس ولا يُلتقط.

صناعة الطربوش بين الماضي والحاضر

في زوايا بعض الورش الصغيرة، التي ما زالت تقاوم الغياب، يحترف الحرفيون خياطة أنواع متعددة من الطرابيش، منها "الكبوس" الخاص بالمناسبات الدينية. و«العصملي" و«التركي" اللذان يعودان إلى تأثيرات الحقبة العثمانية، و"الشوشنا" التي تُلبس في الأعراس. و«لاسطمبولي" الذي يتميز بفخامة خياطته وتطريزه اليدوي.

هذه الأسماء ليست فقط توصيفات فنية، بل هي شفرات زمنية، تنقلك إلى مراحل مختلفة من التاريخ، خاصة تلك التي عايشت فيها عنابة تأثيرات الحكم العثماني، واستوعبت ثقافات عديدة، تركت بصمتها على ملامح المدينة ولباسها. ورغم مرور الزمن، وتغير الأذواق، إلا أن الطربوش لم يغب، ولا يزال مرغوبًا في أعراس المدينة، وفي حفلات الختان، وحتى في عروض المسرح الفلكلوري والحفلات الرسمية.

أصحاب المهنة يطلبون الإنصاف لا الشفقة

اليوم، يقف الحرفيون أمثال "عمي قدور" على مفترق طرق، بين الإصرار على البقاء، والخوف من الزوال. فهم يطالبون بتخصيص فضاءات لعرض منتجاتهم، وتوفير المواد الأولية التي أصبحت نادرة وغالية، حتى يتمكنوا من الاستمرار في حياكة الطرابيش، التي لم تعد مجرد "سلعة تراثية"، بل أصبحت علامة تجارية لمدينة تتغنى بتراثها كل يوم. صناعة الطربوش تحتاج دعما من الدولة والمجتمع، تحتاج أن تُدرج ضمن قائمة التراث اللامادي الوطني، وأن تُدرس في ورش الحرف التقليدية، لأن الحرف حين تضيع، تضيع معها الذاكرة.

الطربوش ليس على الرأس فقط، بل على رأس الذاكرة

في عنابة، الطربوش لا يُوضع فقط على الرأس، بل يُحمل على الرأس، كرمز اعتزاز وهوية، تماما كما تحمل المدن الكبرى رموزها في شوارعها وحدائقها. إنه قطعة نادرة، وذكرى ناطقة، تروي للزائر قبل ابن المدينة، أن هناك تفاصيل صغيرة قادرة على حفظ المدن في الوجدان، كما تحفظ الأراجيز في الأغاني الشعبية.

وفي الصيف، حين تزدهر المدينة بزوارها، وتضج الأزقة بحركة الخطى القادمة من بعيد، يلمع الطربوش على رأس نادل، أو عازف، أو شيخ عجوز يجلس أمام محله الصغير... فيتوقف الزمن للحظة، ويهمس الطربوش في أذن المارة: "أنا الذاكرة... فلا تنسوني."


في مشهد يعود كل صيف

الذرة المشوية تغزو الشريط الساحلي 

تتحول طرقات وأحياء مدينة عنابة، مع حلول موسم الاصطياف، إلى مساحات مفتوحة على طقوس من نوع خاص، حيث تفوح رائحة الذرة المشوية على الجمر، وتتصاعد أعمدة الدخان الخفيف من أركان الشوارع، المؤدية إلى الشواطئ، في مشهد يكاد يُصبح جزءا من الهوية الصيفية لهذه المدينة الساحلية.

على امتداد شارع قمبيطا والطريق الجبلي المؤدي إلى سرايدي، وصولًا إلى مفترقات وادي الغنم وسيدي عكاشة، تنتشر طاولات خشبية وصناديق مقلوبة، تصطف عليها عيدان الذرة الطازجة. شباب وأطفال اختاروا الجمر وسيلة للرزق، والذرة سلعةً موسمية تجذب الزبائن، خاصة عند غروب الشمس، حيث يعتدل الجو وتشتد شهية المصطافين بعد ساعات من السباحة.

يقول يوسف، شاب في العشرينيات من عمره، نصب طاولته قرب شاطئ رفاس زهوان: "هذا موسمنا... ننتظر الصيف كما ينتظر الفلاح موسم الحصاد.. الذرة هنا لا تُشترى فقط لتؤكل، بل لتُعاش بطقوسها… رائحة الفحم، صوت تقلب العيدان، والملح المتناثر على وجهها، يجعل من الذرة نكهة عنابية بامتياز."

بين الفحم والرماد، يقف الصغار بجانب آبائهم، يتعلمون الصبر والتجارة وأصول التعامل مع الزبائن. البعض منهم يأتون من أعالي شطايبي أو من ضواحي البوني وسيدي سالم، يجلبون معهم محصول الذرة من الحقول القريبة، وأحيانًا يتقاسمون إنتاج الحدائق العائلية.

في حديث لـ"المساء"، يقول محمد، فلاح من ضواحي منطقة الحجار "لا نزرع الذرة للربح فقط، بل لأنها تعني لنا شيئا من التراث... كثير من الشباب يشترون المحصول مباشرة منا، ويعيدون بيعه مشويًا. إنها سلسلة رزق مترابطة من الحقل إلى الطريق."

الملفت في مشهد باعة الذرة بعنابة، ليس فقط الإقبال المتزايد، بل الابتكار في وسائل العرض: براميل حديدية مقسومة، كراسٍ متهالكة تحولت لمقاعد انتظار، ومظلات مهترئة تقي من شمس الصيف. بعضهم اختار أماكن استراتيجية قرب مداخل الأحياء الساحلية، وآخرون جعلوا من ظلال أشجار الصنوبر محطات مؤقتة للزبائن المتعبين.

تقول كوثر، سيدة أربعينية، كانت تشتري عيدان ذرة لابنيها بعد يوم طويل على الشاطئ: "أحب شراء الذرة من الطريق، رائحتها شهية، وهي طريقة لندعم هؤلاء الشباب، بدل أن نشتري أشياء مصنعة... إنها عادة صيفية أصبحت لا تفارقنا". الذرة في عنابة ليست مجرد أكلة، بل تعبير حي عن روح الصيف، وعن اقتصاد بسيط يحركه شباب لا يملكون رأس مال إلا عزيمتهم. خلف كل عود مشوي قصة كد وتعاون عائلي، وساعات طويلة تحت أشعة الشمس، لتتحول الذرة في نهاية اليوم إلى مصدر رزق، ووجبة بطعم الصيف ورائحة الفحم.