تصنع من صوف الأغنام أو وبر الجمال
"القشابية".. لباس تقليدي يرفض الزوال
- 533
نجحت "القشابية"، وهي رداء شبيه بمعطف طويل بدون أزرار، بأكمام طويلة وقلنسوة، مع مرور الزمن، في الحفاظ على مكانتها كأحسن لباس لحماية الجسم من قساوة الشتاء بمنطقة المدية، رغم المنافسة الشرسة التي واجهتها من ألبسة من مختلف الأنواع والألوان، وغالبا ما تبدو أكثر جمالا وجاذبية منها.
يحتل هذا الزي التقليدي المتوارث عن الأجداد، مكانة هامة في الذاكرة الجماعية بالمدية، وفي عدة مناطق أخرى من الوطن، لارتباطه الوثيق بمجاهدي ثورة نوفمبر 1954، الذين كانوا يحبذون ارتداءه، ليرتقي بذلك إلى مصاف إحدى أهم الألبسة الوطنية التقليدية. وقد نجحت "القشابية" بذلك، في مواجهة موجة العصرنة والتطورات التي طالت مختلف الألبسة في المجتمع الجزائري، لتحافظ على مكانتها المميزة ضمن الألبسة الشتوية المستوردة من كل بقاع العالم بمختلف الماركات.
وبقي ارتداء "القشابية" يساير الزمن والأجيال، إذ لا يزال يحبذه الشباب وكبار السن على حد سواء، من كل فئات المجتمع بالمدية، ولا يفوتون أية فرصة لارتدائه، لاسيما في الأعياد والاحتفالات الرسمية، التي يحرصون خلالها على اختيار "قشابية" من نوع راق، وفق أحد أكبر خياطي الملابس التقليدية بالمدية، أحسن غرناوطي.
تظل "القشابية" محل إعجاب أعداد متزايدة من الأشخاص، شأنها شأن "البرنوس"، وهو نوع من العباءة الطويلة بدون أكمام وذات قلنسوة مدببة، والزي التقليدي المكون من السترة والسروال الواسع، المدعو عادة "سروال لوبيا"، المتميز بكونه ليس حكرا على فئة اجتماعية أو منطقة معينة من البلاد.
اعتبر غرناوطي، المنحدر من عائلة مشهورة بالمنطقة، توارثت على مدى أكثر من سبعة أجيال هذه الحرفة، أن ارتداء "القشابية" "يتوارثه الأجيال أبا عن جد ويرتدونه بكل فخر واعتزاز". وقال إن ارتداء هذا الزي كان محصورا في المناطق الريفية وعند البدو، قبل أن ينتقل شيئا فشيئا إلى أوساط المدن، مفسرا هذه العودة إلى الأصول بتعلق المواطن الجزائري بثقافته وهويته.
بصوفها أو وبرها.. القشابية هي الخيار الأفضل
فرضت القشابية نفسها لدى كل الفئات الاجتماعية من أصحاب الجاه والإطارات والموظفين ورجال الأعمال والشخصيات العامة، إذ يرى فيها الكثيرون نوعا من التميز الاجتماعي، لاسيما إذا تمكن صاحبها من الحصول على أفضل ما في السوق وبأسعار بعيدة عن متناول ذوي القدرة الشرائية البسيطة، حسب السيد غرناوطي.
وأوضح في هذا السياق، أن أسعار "القشابية" مرهونة بعدد الساعات التي يتطلبها صنع اللباس والمواد المستخدمة فيه، إذ يوجد فرق كبير في السعر والقيمة بين "القشابية" المصنوعة من وبر الإبل وصوف الأغنام، وتلك المصنوعة من مواد أولية غير طبيعية.
وأفاد نفس الحرفي في هذا الشأن، أن سعر "قشابية" الصوف يحدد ابتداء من 25 ألف دينار، فيما يمكن للقشابية المصنوعة من وبر الإبل بلوغ سعر 200 ألف دينار أو أكثر.
وقد أشار إلى أن تجارة "القشابية" تزدهر بشكل كبير خلال الأعياد الدينية والتقليدية، على غرار عيدي الفطر والأضحى ورمضان والمولد النبوي الشريف، لافتا إلى أن السنوات الأخيرة، سجلت اهتماما كبيرا باللباس التقليدي من طرف الشباب.
من جهته، قال إبراهيم سردوك، وهو خياط شاب في 29 من العمر، ينحدر من بلدية تلت دواير، جنوب شرق المدية، بأن اللباس التقليدي هو بمثابة "مرآة للأناقة والهمة، ورمز للانتماء إلى ثقافة متجذرة وغنية ضاربة في أعماق التاريخ".
كما أكد هذا الحرفي الشاب ارتباط صورة اللباس التقليدي، من "قشابية" أو "برنوس"، أو الأزياء الاحتفالية التي يتم ارتداؤها خلال عروض الفنتازيا، "بصورة الشخصيات الكبرى التي صنعت تاريخنا"، أمثال الأمير عبد القادر والشيخ الحداد والإمام عبد الحميد بن باديس، وحتى في زمن أقرب، رئيس الجمهورية الراحل هواري بومدين، الذي عرف ببرنوسه الأسود الشهير الذي كان لا يفارقه خلال تنقلاته داخل البلاد أو خارجه.
جدير بالذكر، أن الشاب إبراهيم ورث هذه الحرفة عن والده، الذي يبلغ حاليا 85 سنة من العمر، قضى ما يقارب 65 سنة منها في هذه المهنة، قبل أن يأخذ ابنه إبراهيم المشعل لمواصلة الدرب في الحفاظ على هذه الحرفة، التي تعد جزء لا يتجزأ من التراث المحلي.
وبالرغم من صعوبة هذه الحرفة، التي تحتاج إلى الكثير من الصبر والشغف بالمهنة، يبدو جليا أن هذا الخياط الشاب عازم كل العزم على مواصلة مسيرة والده، وبذل نفس الجهد والتضحيات من أجل ضمان استمرارية هذا التراث ونقله إلى أشخاص آخرين.
للإشارة، تشكل "القشابية" و"البرنوس" المحور الأساسي لمعرض مخصص للباس التقليدي، ينظمه قطاع الثقافة والفنون بالمركز الجامعي للمدية، بمناسبة الاحتفال بشهر التراث (18 أفريل-18 ماي). كما يتضمن نفس المعرض مختلف أنواع الملابس التقليدية لمنطقة التيطري، وكل الأدوات المستعملة في صنعها.
شهدت هذه التظاهرة الثقافية تقديم حرفيي الولاية لشهاداتهم حول هذا التراث المادي، وامتداداتها الاجتماعية والثقافية أمام الطلبة. كما تناول المتدخلون الجوانب المبرزة لخصوصية "القشابية" و"البرنوس"، والمكانة التي يحتلها هذين اللباسين في العالم الريفي، وكذا مراحل تحضير المواد الأولية المستخدمة والتقنيات المتبوعة، للحصول على قشابية في شكلها النهائي.